لبنان والذين يريدون إقامة باب للركام

إذا كان انتخاب رئيس جديد للبنان مشروطا بشروط حزب الله، فمن الخير للبنانيين أن يفكروا في طريق آخر لإنقاذ البلاد.

الحديث عن الحاجة إلى انتخاب رئيس جديد، إنما يمضي في دائرة الوهم التي صنعت الأزمة في لبنان، وكررتها مع كل رئيس تم انتخابه منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، ومع كل رئيس صار انتخابه تكرارا للفشل منذ اتفاق الطائف في العام 1989.

المشكلة في لبنان ليست مشكلة انتخاب رئيس. لا تحتاج إلى تكرار هذه الجملة لكي تفهم أن وجود رئيس على غرار كل مَنْ عرفهم لبنان منذ نحو نصف قرن، كانوا بمثابة تجديد للأزمة وليس حلها.

لماذا؟ لأن النظام نفسه هو العاطل عن العمل. هو نفسه نظام فاشل. هو نفسه رهينة لطبيعته الطائفية. وقد أثبتت هذه الطبيعة أنها ولّادة للأزمات، وهي إذ تملك أدوات لمفاقمتها، حتى أصبحت البلاد خرابا، فإنها لا تملك أدوات لحلها.

لبنان الآن بلا نظام من الناحية الواقعية. بلد لا شيء فيه يعمل. لا توجد كهرباء. لا يوجد قضاء. لا توجد مؤسسات تعمل كباقي مؤسسات الدول. حتى المراحيض في بعض الدوائر الحكومية لم تعد تعمل. ومنذ أن اندلعت أزمة تراكم القمامة، لأسباب تتعلق بالتنازع على العقود، فقد أصبح الإدراك واجبا، بأن القمامة هي التي صارت تحكم وهي التي تتحكم. والقليل الباقي في مصرف لبنان من الاحتياطات سوف ينضب إن عاجلا أو آجلا ليواجه اللبنانيون ساعة الحقيقة في أن نظامهم مجرد وهم. وأنهم سواء أضافوا رئيسا جديدا إلى قائمة الفخامات أم لم يُضيفوا، فإن الشيء نفسه سوف يتكرر، لأن القمامة هي التي انتصرت على صورة لبنان وهويته وطبيعة نظامه.

فهل بقي في لبنان ما يجدر، أو ما يمكن، تكراره؟

كل المسألة المتعلقة بانتخاب رئيس، تتعلق بالخدعة الذاتية نفسها. وهي أن “وجوده سوف يساعد في إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لتقديم حزمة إنقاذ”. بينما لا يغرب عن ذهن أحد أن تلك الحزمة تتطلب إصلاحات. وإن هذه الإصلاحات لا تحظى برضا ذلك الحزب المشؤوم، لأنها تشمل إغلاق منابع الفساد، وإغلاق بوابات الحكومة الموازية التي يقودها حسن نصرالله، ولأنها تشمل إعادة بناء، ليس النظام المصرفي وحده، وإنما إعادة بناء هيكلية مؤسسات الدولة لتكون مؤسسات خدمة مدنية لا مؤسسات نهب وتقاسم حصص.

المعنى من ذلك، هو أن وجود رئيس لن يغير شيئا في حقيقة أن الإصلاحات لن تمر في النهاية، ما يجعل بقاءه، برضا أو عدم رضا حزب الله، شيئا لا معنى له.

وهو أن هذا الحزب نجح في فرض (ميشال عون رقم 2) في قصر بعبدا، وهو أن اسم هذا (الميشال عون الجديد) هو الاسم الذي يختاره بنفسه، فهل سيكون بوسع هذا الرئيس أن يحقق ما يطالب به المجتمع الدولي؟

ما معنى المنافسة بين أسماء وأسماء، بينما يعرف الجميع أنها ستعود لتدور في الحلقة المفرغة ذاتها للامتيازات الطائفية والحزبية؟

لقد كان يمكن لبعض المخيلة، في ظل العجز النيابي، أن يذهب إلى الدعوة إلى انتخاب رئيس ليس بين نواب البرلمان، وإنما في انتخابات عامة مباشرة.

يتطلب ذلك، طبعا، تعديلا دستوريا. وهذا لن يُتاح أيضا. حجر العثرة الذي يحول دونه يظل هو نفسه حجر العثرة الذي حال دون تطبيق اتفاق الطائف، لجهة إلغاء نظام الطائفية السياسية.

لبنان بحاجة إلى نظام جديد. هذا النظام ليس بحاجة إلى رئيس مُنتخب من جانب النظام القديم. إنه بحاجة إلى قوى وطنية وشعبية، تعلن انهيار المجلس النيابي وعدم أهليته. وتضع اتفاق الطائف قيد التطبيق الفوري، بآليات انتخاب جديدة، تجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة، تنتخب رئيسا بالاقتراع العام المباشر، ويكون مسؤولا عن حكومته، ومجلسا نيابيا جديدا على أسس لا طائفية، وتعاد هيكلة مؤسسات الدولة، من أعلاها إلى أدناها، على أساس الكفاءة والخبرة، لا على أساس الانتماءات الطائفية. ويُشطب معها ذكر الهوية الدينية أو المذهبية، أو حتى مكان الولادة من بطاقات التعريف الوطنية (مؤقتا على الأقل، أو حتى يكتمل الاندماج الاجتماعي).

هذا السبيل سوف يعني: إجراء الإصلاحات قبل انتخاب الرئيس، وليس العكس.

لقد كان يمكن لامتناع السنة عن المشاركة في انتخابات مايو 2022 البرلمانية أن تنزع الشرعية عن النظام القائم وأن تعني الدعوة إلى بناء نظام جديد.

ولكن لا بأس. ربما خشي الفاعلون من أن يتمدد حزب الله إلى مناطقهم بعملائه. وربما ظن البعض أنهم يستطيعون تحقيق أغلبية تكسر هيمنة هذا الحزب على النظام. إلا أن النتيجة كما تراها الآن، هي أن النظام الفاشل ازداد فشلا. وهو نفسه فشل غير جديد. وإن التسويات الخاطئة التي مدت بعمره قليلا بانتخاب عون، بعد سنتين ونصف السنة من “الفراغ الرئاسي”، لم يعد لها مكان هذه المرة. وإن الفراغ سيظل قائما، أُنتخب أم لم يُنتخب أي رئيس، لأن أصل القصة لا يتعلق به.

خداع النفس مفيد أحيانا. إنه يعطي انطباعات، ويوفر سبيلا لبيعها أو الاتجار بها. ولكنه كأي خداع آخر، لا يدوم طويلا، ولا يستطيع مقاومة الحقائق المرة. وهذا مما لا ضرورة له الآن.

النظام القائم، أصبح مثل عمارة منهارة. والساعون إلى انتخاب رئيس، مثل الذين يحاولون إقامة باب للركام؛ بابٌ، إذا فتحته، لم تلق إلا الغبار.

كيف تقول للذين يتنازعون على إقامة الباب، ويختلفون على شكلها، قبل إقامة العمارة: يا ناس، القصة هونيك، مش هون.