ماتت طَنطْ كلوديت!

كان منزلها في طرف الكرنتينا يطلّ مباشرة على المدخل الشمالي لمرفأ بيروت، ولم يكن يحجبه عن منظر مغيب الشمس المهيب والبحر والبواخر والشاحنات والرافعات سوى عصف الإنفجار الذي أحرقه وكسّره قبل أن يدمّر طبقاته الثلاث ويسوّيها بالأرض على أرواح من كان يعيش داخلها... منهم من كانت بجانب غاز تنتظر استواء طبخة، أو أمام برّاد مفتوح تعدّ البيضات الباقيات في درفته، أو على كنبة تتصفّح من داخل علبة بسكويت صوراً قديمة لأولادها عندما كانوا يبتسمون في بيروت قبل أن يهاجروا.

كانت طنط كلوديت تعيش في هذا البيت منذ أكثر من 50 عاماً، وقبل أن يتحوّل بلحظة إلى مقبرتها، كان جنّتها وحصنها المنيع طوال كل تلك السنين. لم تقوَ عليه اعتداءات الفلسطينيين في منتصف السبعينات، ولا دمّرته صواريخ السوريين في الـ78 والـ79، وصمد في وجه قذائف ميشال عون العشوائية في أواخر الثمانينات، وتخطّى انتفاضات الميليشيات المتكرّرة، وبقي شامخاً أمام كل الحروب الإسرائيلية، وقاوم الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية والسياسية والعسكرية، لكن الشيء الوحيد الذي دمّره هو سلام أمراء الحرب وانفجار فسادهم في مرفأ بيروت، بعدما تقاسموا أرواحنا وعلى أرزاقنا اقترعوا.

طنط كلوديت المقاوِمة، كانت تأخذنا كل يوم إلى مدرسة القلب الأقدس في الجميزة بسيارتها الـ«رينو 12» البرتقالية من عام 1985 وحتى العام 1994. كانت تكدّسنا 7 أو 8 أولاد بجانبها وعلى المقعد الخلفي وتحمينا من صوت الرصاص والقذائف بأغاني عمرو دياب ووردة الجزائرية، وكانت تهرّبنا داخل تلك المساحة الصغيرة المتنقّلة على الطريق من الحرب وأوجاعها. أجبرتنا طنط كلوديت أن نحفظ كل الأغاني الموجودة على الكاسيت، قسم منها عند الساعة السادسة صباحاً والباقي في طريق العودة... وهل تتخايلون طفلاً يرندح «بَتونّس بيك» أو «شوّقنا أكتر شوّقنا» قبل صياح الديك؟ عندها يمكنكم أن تعرفوا أجواء تلك الجنّة البرتقالية الصغيرة المقفلة شبابيكها على أصوات الحرب، والتي ترقص وسط تثاؤبات أولاد لا يتعدّى سنّ الكبير فيهم 8 سنوات.

طنط كلوديت، مثلها مثل كثيرات من أمهات بيروت وجدّاتها، كانت قلب بيروت النابض. كانت تلك المناضلة التي لم تحمل بارودة أو مسدساً، ولكنها حمت المدينة بصمودها طوال سنين الحرب، ورفضت أن تتركها ولو ليوم واحد. كانت تعرف أن بيروت مدينة لا تموت، ليس بسبب حكّامها وسياساتهم، ولا بسبب جيوشها وحصونها المشيّدة، بيروت لا تموت بسبب أهلها الذين لا يمكن أن يتخلّوا عنها مهما كانت الظروف.

بعد الإنفجار بلحظات، هبط المنزل ودفن طنط كلوديت تحت رائحة جدرانه وحِنيّة ذكرياته... هبط المنزل، لكن طنط كلوديت رفضت أن تموت غدراً، فقاومت لأكثر من ساعتين من تحت الردم قبل أن تفارق الحياة. بقيت تصرخ طوال ساعتين وفرق الإنقاذ تحاول الوصول إليها، لكنها ربما لم تكن تصرخ حتى ينتشلوها، كانت تريد أن ينقذوا بيروت بأعلى صوتها. رفضت أن ترحل قبل أن تترك إرث الصمود في المدينة التي عايشت الموت فيها حتى تبقيها حيّة رغماً عن أنف زعران الكرافاتات.

عندما نتكلّم عن مقاومين، عادة ما نذكر الشباب والرجال، والبواريد والأسلحة والخطط العسكرية، وعادة ما نتكلّم عن أحزاب وتيارات، وعن علاقات واتفاقات دولية وتمويل خارجي.

لكن عندما نتكلّم عن بيروت التي لا تموت، من المستحيل أن ننسى الحديث عن النساء المقاومات بمراويل مطابخهنّ، وعن النساء المقرفصات تحت الدرج وهنّ يحتضنّ أولادهنّ في عزّ القصف. عندما نتكلّم عن بيروت، من المستحيل ألّا نذكر العجزة الذين يحمون بقمصان النوم والبيجامات شوارع بيروت من على البلكونات القديمة في الجميّزة ومار مخايل وكرم الزيتون وقصقص والطريق الجديدة وراس النبع ورمل الظريف.

ماتت طنط كلوديت، ولكنها تركت رفاقها العجزة صامدين بابتسامة في بيوت بلا شبابيك وأبواب، تركت رتلاً من المقاومين في مدينة تتوارث الأجيال فيها شعار «أنا بموت ببيروت حتى موت ببيروت».