الحياة في لبنان... فيلم هندي طويل

مع الانهيارات والتصدعات المتتالية، الاقتصادية والمعيشية والسياسية والأمنية، التي أصابت "بلد العسل والبخور"، برزت مجموعة عوالم ودلالات تشير إلى التحلّل في الجسم اللبناني. فعدا عن نهب أموال المودعين وضياع القيمة الفعلية لرواتب موظفي القطاع العام(والخاص)، وفقدان البوصلة في كل شيء، بات كل مواطن يروي فيلماً هندياً عمّا آلت إليه شجون حياته، وما أصابه من انتكاسات وتبدلات وانقلابات غير متوقعة، خصوصاً في ضياع "شقاء العمر"، بين ليلة وضحاها.

لم يعدْ غريباً أنْ نجدَ أشخاصاً يقفون على جانب الطريق، يشيرون يأيديهم للسيارات العابرة، فهم بشكل أو بآخر، يلجأون للتنقل من خلال الـ"اوتوستوب"، بسبب الشح المالي أو العوز والقلّة والفقر، وما في اليد حيلة. وتخلّى كثر عن السيارة الخاصة أو أوقفوها في المرآب، وراحوا يتنقلون سيراً على الأقدام، وزادت الدراجات النارية ومحالها، وحلّ التوك توك(الستوتة بالتسمية عراقية، وهو مركبة بدواليب ثلاثة)، كوسيلة نقل بالأجرة، محلّ السيارات في الكثير من المناطق والبلدات وحتى المدن. استعملت كجزء من السعي لتقليص نفقات المحروقات، وسُميت عربة الفقراء، وحيث تحضر تكون علامة للفقر من الهند إلى مصر. ولم يعد غريباً أن يؤجل المواطن إصلاح سيارته إن كانت معطلة، إلى أن يأتي الفرج، يتركها مركونة في انتظار قدرها وربّما يبيعها ويتخلّص من واقع تفرضه على حياته. وعادت فئة كبيرة إلى شراء الإطارات المستعملة، التي تصل إلى لبنان عبر حاويات مهرّبة، أو تبيعها شركات تأمين المحلية. حتى الإطارات غير الصالحة للاستعمال اطلاقاً، تُباع وتحرق لاستخراج الأسلاك المعدنية منها، مع ما تسبّبه من تلوث قاتل وفتاك.

من علامات الغرق والرثاثة والزبائنية أيضاً، وليس القناعة السياسية والإيديولوجية، زيادة عدد "المنتسبين" أو الملتحقين بسرايا المقاومة التابعة لـ"حزب الله" والمطالبين بمساعدات طبية واجتماعية وعينية، أو المستفيدين من بطاقات مرورية إلى سوريا، خصوصاً في مناطق الأطراف في البقاع والشمال وعكار وبعض العشوائيات السكنية. وزادت نسبة الفقراء والباحثين عن بطاقات الشؤون الاجتماعية أو بطاقات الإعاشة، وهي خاضعة في جانب منها للتنفيعات والفساد الغني عن التعريف. وانتشرت بازارات ومحال الألبسة الأوروبية المستعملة، أو "البالة" بحسب التسمية السائدة، وسرعان ما اكتشف الناس أنّ أسعارها "المدولرة" باهظة، مقارنة برواتبهم البخسة.

ولم تكن الزيادة الملحوظة في عدد الدكاكين والحوانيت في المباني والحارات والأزقة، حيث لكل عمارة دكانها، وكذا ارتفاع عدد عربات الخضر والفواكه في بعض ساحات المدن وانتشار أكشاك الاكسبرس على جانبي الطرق وعند المنعطفات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، إلا إشارة دامغة إلى تقلّص فرص العمل والمداخيل الشهرية. وفي المقابل، اضطر الكثير من صغار المزارعين إلى إيقاف أعمالهم، بسبب غلاء المازوت والأسمدة والمبيدات، وبعضهم عرض أرضه للبيع، لتكون "سنَده" في هذه المرحلة الصعبة. وخفّت حفلات الأعراس الآن مقارنة بسنوات سابقة، وصار العرسان يختارون حفلاتهم "عالضيق"، ليقتصر حضور المدعوين على قلّة من المقربين، وذلك كله درءاً للإفلاس.

وارتضى كثر من المواطنين استشارة أصحاب الصيدليات بوصفة طبّية عاجلة وعلبة دواء، بدلاً من الذهاب إلى عيادة الطبيب وإجراء الفحوص. وباتت فئة كبيرة من اللبنانيين تنتظر المساعدات الطبية عبر الجمعيات التي تهتم بمخيمات النازحين السوريين في أكثر من منطقة وموضع، ولجأ جمهور واسع إلى الأدوية المهرّبة، السورية أولاً والتركية ثانياً، نظراً لرخص ثمنها، مقارنة بأسعار أدوية تستوردها الشركات اللبنانية التي لا ترتوي من الأرباح.

وكانت الفوضى المصرفية والنقدية والاقتصادية قد خلقت ميليشيا من شركات الصيرفة ومن الصرافين الجوالين. ومع الثبات النسبي لسعر الصرف خلال الأشهر القليلة الماضية، تقلّص عددهم بسبب انخفاض الطلب على الدولار. وفوق دكّة الرثاثة الحياتية، والتحلّل، استأنفت دولة تصريف الأعمال الميقاتية تقديم المفاجآت العرمرمية، من ارتفاع سعر الإنترنت الردئ والبطيء إلى جنون أسعار الكهرباء والمدراس والجامعات، والضرائب المنشارية المزمع إقرارها قريباً في الموازنة المقبلة، وقد أطلّت برأسها في بعض البرامج المتلفزة. والحكومة الميقاتية في كل تحركاتها، تبحث عن الاستعطاء والتسوّل من بلدان أدارت ظَهرها لهذا البلد العامر بالفاسدين واللصوص...

عدا كل هذه المستنقعات الحياتية البائسة، وعدا عن حزن الأفلام الهندية، هناك العيش الآن في عنق الزجاجة الحربية، فثمّة من يهدّد بتحويل لبنان إلى غزة ثانية.