الراقصة أماني تطلّ بعد غياب: لبنان لا يحتمل عودتي

تُحوّل أماني، وهي راقصة لبنانية رصينة تسكن الوجدان منذ التسعينات، سؤالاً عن اللهفة حيال حضورها الأخير في «مهرجان الزمن الجميل» بعد غياب عن مسارح لبنان وشاشاته؛ إلى صاحبة السطور: «أجيبيني أنتِ، لستُ ممن يحكمون على أثر أعمالهم في الحَفْر والبقاء». تُسمّيه «الفضول» حيال معرفة الانطباعات، ذلك الذي يدفعها إلى قَلْب الأدوار والإكثار من الأسئلة خلال اللقاء. تُعلّل لـ«الشرق الأوسط»، حين تجد ألا مفرّ من الإجابة: «سبب اللهفة هو شوق الآخرين إلى المفقود. حضوري أيقظ عطر أيام لا تُمحى. الإطراء بمثابة رد فعل معاكس على الواقع».

نُمي إليها مراراً أنها تسير عكس الموجة السائدة، باحترام فن الرقص وتعمُّد اللباس اللائق والحفاظ على المكانة. منذ بداياتها، وأماني (الاسم الفني لأنجيل أيوب) أدركت اتّساع عالم الرقص الشرقي وتمدّده في المساحات التعبيرية المطلقة: «تجذبني الموسيقى الشرقية منذ سنّ السادسة عشرة. أنا ممن يصغون جيداً قبل التمايل. شعرتُ بأنّ الرقص الذي نشاهده مصغَّر وأشبه بالجزء. ليس بالضرورة أنه الجزء الجميل، فتعلّمتُ عدم الحكم على الرقص إلا من خلال الموسيقى».

منذ تصميمها الرقصة الأولى للعرض التلفزيوني، وأماني تشاء سكب أفكارها وخطواتها الخاصة على مسعى التوافق مع روح الموسيقى الشرقية. كان عام 1992 حين أطلّت بشخصية «العباسة»، شقيقة هارون الرشيد بعرض روى أيضاً الحكاية. تذكُر: «شكّل الرقص محاكاة تاريخية من خلال الموسيقى والفكر والسرد. كان إضاءة على المنحى الاجتماعي آنذاك وأزياء الحقبة».

نوَّعت بين التعبيري والكلاسيكي، ثم توارت عن المسرح اللبناني وكفّت عن ضرب مواعيد للعروض الجماهيرية. ماذا لو كان الغياب تهرّباً من المسؤولية إزاء ترك الساحة للرخاوة والمدّعين؟ تجيب: «الزعل كبير، ولا يتعلق فقط بمصير الرقص الشرقي. إنه مسألة تشمل مصير الفنون بأسرها، والتاريخ والثقافة. كل شيء يندثر. في النهاية، لا أنوب عن الجميع. إنني جزء صغير من مجموعة بشر هائلة، وبمفردي لن أصنع معجزات. لا يبقى شيء على حاله، حتى الإنسان يخذل الإنسانية».

لم تهجر أماني الرقص، بل استقالت من التمايل على مسارح لبنان. تتحدّث عن سببين: «فوضى الجو الفني العام والحروب». تخونها الرغبة في الاستعراض على وَقْع الجوع والتشرّد والموت، فتربط الإبداع بالعمران وهدوء البال. برأيها، «يُبدع المرء في السلم وحين يخلو محيطه من التوتر. فضّلتُ الابتعاد والتفرّغ للعمل في الخارج والتنقّل بين الأسفار والتعليم. أقيم مهرجانات مع فرقتي المؤلّفة من 60 راقصاً، من اليابان شرقاً إلى أميركا غرباً. لم أعتزل لبنان كلياً، لكنه ليس مستعداً للتحمُّل بعد. حين يقوى على التحمُّل، أعود».

تُكثِر طرح الأسئلة، فتسأل رأي صاحبة السطور بالمشهد الفني. تقاطع رداً مفاده أنّ ثمة محاولات لا بدّ من إنصافها وسط التشابُه، بالقول: «لكنها محاولات قليلة. الدعم موجَّه نحو الاستسهال وما لا يشترط الجهد. المواهب الحقيقية غالباً تُطمَس». مع ذلك، تُبقي على الأمل: «الزمن الجميل لا يخفت. الإنسان مخترع الأزمان، وطالما ثمة مَن يكترث للفن، فسيدوم».

لا بدّ أنّ إغراءات تربّصت في محاولة لجرّها إلى ما لا يليق، فكيف تصدّت بالتشديد على بزّة الرقص المحترمة وتأكيد حُسن السمعة؟ منذ عصرها الذهبي في لبنان وهي تدرك أنّ التجاوزات موجودة في كل زمن، ومواجهتها تتطلّب صلابة. تقول: «خبأ الليل خفايا يمكن أن تُسمّى إغراءات. اليوم، تنكشف هذه الخفايا ويُحال كل شيء على العلن. لم أقدّم سوى قناعاتي وما يجعلني راضية. تلك الإغراءات لم تستملني يوماً، ولستُ نادمة. كسبتُ نفسي، وصنعتُ أسلوباً أدرّسه لطلابي ويُعرّف عني على مسارح العالم».

ماذا لو يصمت الجسد؟ كم يصعب على الراقصة هذا الاحتمال! ماذا لو زُجّ التمايل في استراحة طويلة؟ تدرك أماني أنّ هكذا تساؤلات تؤلم، فتجيب: «الرقص الشرقي علاج يمسح ثقل الحياة. حين أؤدّي على المسرح، أبلغ سعادتي. وحين أعلّم الأسلوب والتقنيات لطلاب من العالم، تغمرني البهجة. طالما أنّ الرقص رفيق أيامي، أجدُني وسط السكينة. سكوت الجسد يعني سكوت الروح. والمرء بلا روحه، ميت. التوقّف عن الرقص يعني التوقّف عن كوني أنا».

وهل للراقصة عمر؟ هل تتدخّل السنوات في لجم هذه الموهبة الفريدة؟ تردّ أماني بأنّ الكلمة الفصل للجسد نفسه، فهو ما يُملي على صاحبه الخطوة المقبلة: «في التعليم، لا يتدخّل الجسد في تحديد مصير الفنان. التعليم يتيح علاقة عميقة مع الطلاب تمتدّ لسنوات. أما الاستعراض، فمسألة أخرى».

تجد نفسها تتحدّث عن عالمين: عالمنا وعالمهم. «في منطقتنا العربية، يرتبط الاستعراض بالجمال. العين تشترط تحلّي الراقصة بمظهر لائق. هذا ما يرضي الجمهور ويحاكي توقعاته. في الغرب، تختلف المقاربة. لدي طالبات شغوفات في عقدهنّ السابع. المهم أن تتحلّى الراقصة باللياقة البدنية والرغبة في العطاء. لا يهم إن كانت متقدّمة في السنّ أو بدينة. الأنظار تُوجَّه إلى موهبتها ومهاراتها. كلما تجوهَرت، صفّق الناس بحرارة وامتلأت المقاعد بمطاردي الفن الحقيقي».