الودائع السورية المجمدة بالمصارف اللبنانية.. إشكاليات متشعبة حلولها معقدة

مع سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، طُويت صفحة واحدة من أطول الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، ودخلت سوريا مرحلة انتقالية بالغة الحساسية بمجموعة ملفات تحتاج حيّزاً من التفكير والتنسيق الدولي. وبينما تتصدر ملفات العدالة الانتقالية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وجدولة إعادة الإعمار، برزت إلى السطح قضية أموال السوريين المجمدة في المصارف اللبنانية، التي تُقدَّر بمليارات الدولارات وتعدّ من بين أبرز تحديات ومساعدات التعافي الاقتصادي السوري في آنٍ معاً. 

تعود بداية هذه الأزمة إلى أواخر عام 2019، عندما انهار القطاع المصرفي اللبناني بصورة شبه كاملة، في واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخ البلاد؛ حينما فرضت المصارف اللبنانية ما عُرف شعبياً بـ"الكابيتال كونترول" وفرضت فيها القيود غير القانونية على السحب والتحويل، رغم غياب قانون رسمي ينظم ذلك. ونتيجة لخطة القيود هذه تضرر مئات آلاف اللبنانيين، لكن الضربة كانت أشدّ على المودعين السوريين، الذين وجدوا أنفسهم محرومين من الوصول إلى مدخراتهم، والتي تراوحت تقديراتها في البداية بين 20 و42 مليار دولار. 

لم تكن هذه الأموال مقتصرة على رجال أعمال أو أفراد أثرياء، بل شملت أيضاً شركات كبرى، ومغتربين، ومنظمات دولية عاملة في سوريا كانت تستخدم النظام المصرفي اللبناني لتحويل الأموال إلى الداخل السوري، في ظل العقوبات الغربية على النظام السوري والمؤسسات المالية التابعة له، حيث شكّل لبنان لعقود "صندوق أمان مالي" بالنسبة لكثير من السوريين، خصوصاً منذ 2011، حين أصبحت المصارف اللبنانية بوابة التمويل الخارجي شبه الوحيدة المتاحة لسوريا المحاصرة اقتصادياً والنافذة الأقرب على التبادلات التجارية العالمية بالقطع الأجنبي.

ارتدادات الأزمة
فور تجميد الودائع في لبنان، بدأت التداعيات المباشرة تضرب الاقتصاد السوري، حيث انخفضت تدفقات الدولار إلى البلاد، فانهارت الليرة السورية، وارتفعت معدلات التضخم، وتضاعفت أسعار الواردات الأساسية، ليعقب ذلك انهيار آخر بعد تداخل آثار الانهيار اللبناني مع العقوبات الأميركية المفروضة بموجب "قانون قيصر"، وتفاقمت الأزمة المالية المشتركة بين البلدين إلى حد غير مسبوق.

ومع دخول سوريا مرحلة ما بعد الأسد، أطلقت الحكومة السورية الانتقالية تحركات دبلوماسية وقانونية لاسترداد هذه الأموال، مُعتبرة إياها أحد أهم موارد تمويل عملية إعادة الإعمار، لا سيما أن حجمها – حتى في أدنى التقديرات – يفوق مجموع ودائع وأصول القطاع المصرفي السوري الخاص بأكمله.  فعلياً، لا تزال التقديرات المتعلقة بحجم الودائع السورية في لبنان متضاربة إلى حد كبير، ففي حين قدّرت بعض الدراسات الرقم بين 20 و40 مليار دولار، فإن مصرف لبنان أشار إلى أن الودائع الأجنبية غير المقيمة بالعملات الأجنبية انخفضت من 28.4 مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2020 إلى 20.9 مليار في كانون الثاني 2025، دون تفصيل حسب الجنسية. في المقابل، قدّرت مصادر مصرفية لبنانية أن الودائع السورية الفعلية لم تتجاوز 3 إلى 4 مليارات دولار بحلول 2025، نتيجة سحب تدريجي من قبل المودعين بأسعار صرف منخفضة لقبولهم بشروط المصارف رغبة منهم في تسيير أعمالهم بالحد الأدنى من الخسائر.

ورغم صعوبة تأكيد هذه الأرقام، إلا أن المقارنة مع القطاع المصرفي السوري تُظهر مدى الفجوة، إذ إن قيمة ودائع المصارف السورية الخاصة بلغت في النصف الأول من عام 2024، نحو 1.5 مليار دولار، في حين قُدّرت أصولها بـ3.9 مليار دولار فقط. حتى في أكثر التقديرات تحفظاً، يتضح أن الودائع السورية المجمدة في لبنان تفوق القدرة المصرفية السورية مجتمعة، ما يعكس مدى الاعتماد البنيوي لسوريا على النظام المالي اللبناني الذي كان آمناً إلى حد بعيد حتى في ظل الحروب والأزمات السياسية والدبلوماسية في لبنان، ويُفسِر حجم الضربة التي تلقّاها الاقتصاد السوري إثر الانهيار اللبناني.

أفاق الحل 
بعد تحركات الإدارة السورية الجديدة، انتعشت آمال السوريين باسترداد ودائعهم. لكن الواقع السياسي والاقتصادي في لبنان لا يزال بعيداً عن تقديم حلول واقعية، إذ لا تزال المصارف اللبنانية تعاني من أزمة سيولة عميقة، ولم يُقرّ حتى اليوم قانون لضبط رأس المال يحدد آليات التعامل مع هذه الودائع. علاوة على ذلك، فإن جزءاً من الأموال المجمدة إما تم توظيفه في تمويل الديون العامة اللبنانية، أو تبخر في دوامة الفساد وسوء الإدارة. وإذ تعاني الحكومة السورية الانتقالية من ضغوط داخلية كبيرة من قبل رجال أعمال ونخب اقتصادية تطالب باسترداد الأموال كأحد سبل الإنعاش السريع، تحاول أطراف لبنانية استخدام هذا الملف كورقة ضغط سياسي، خصوصاً ما يتصل بملفات اللاجئين والمصالح الاقتصادية المشتركة.

إلا أن واقع الأمر مختلف، إذ إن في ملف الودائع السورية إشكاليات سياسية وقانونية متشابكة. ففي لبنان، تُثار تساؤلات حول شرعية بعض هذه الودائع، خصوصاً تلك العائدة لشخصيات مرتبطة بالنظام السابق، أو المتورطة بشبهات فساد وتبييض أموال. وبسبب السرية المصرفية اللبنانية، يُعدّ التحقق من مصادر هذه الأموال عملية معقدة، وهو ما يفتح المجال أمام تسييس الملف، بل واستغلاله ضمن الصراعات الإقليمية والدولية. 

يمكن على المستوى السوري ترتيب استعادة هذه الأموال عبر القنوات الدبلوماسية، مع التركيز على تلك المرتبطة بالمال العام أو النظام السابق. أو عبر صندوق استثماري مشترك: اقتُرح تشكيل صندوق خاص تُسهم فيه الودائع السورية المجمدة، موزّعة بنسبة 35% للاستثمار، 35% للاستيراد، و30% كودائع نقدية في المصارف السورية، مع الاستفادة من قرار تجميد حسابات النظام السابق، حيث أصدر مصرف سوريا المركزي تعميماً بتجميد الحسابات المرتبطة بشخصيات النظام القديم، في محاولة للفصل بين المال المشروع والمال الفاسد.

أما على المستوى اللبناني، فيمكن طرح مجموعة إصلاحات تصب في صالح إتمام هذا الملف، تبدأ بالمساواة في المعاملة القانونية وفقاً للقانون اللبناني ومبدأ الملكية الفردية مع إتاحة المجال أمام أدوات استثمارية مؤقتة تتيح للمودعين استخدام أموالهم كي لا تفقد قيمتها السوقية، والتحقيق في مصادر الودائع على أن الأموال السليمة قانونياً ستُحرر، بينما سيجري حجز الأموال المشبوهة، وعدم ربط  ملف الأموال المحتجزة بملف اللاجئين ما يُدخل البعد الإنساني في سياق المعادلة المالية، لا سيما وأن ربط الإفراج عن الودائع السورية بتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، من شأنه أن يطيل أمد ملف الأموال لتعقيد ملفات اللاجئين.

ماذا بعد العقوبات؟
ورغم رفع العقوبات الأميركية عن سوريا في أيار/مايو الماضي، تبقى المصارف اللبنانية متوجسة من أي معاملات قد تعيد تفعيل عقوبات ثانوية، ما يعقّد التحويلات المالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القوانين اللبنانية المتعلقة بالسرية المصرفية قد تعرقل عمليات الكشف عن مصادر الأموال، ما يصعّب عملية التحقق من مشروعية الودائع في ظل غياب آليات إجرائية أو قانونية مفعّلة يمكنها إلزام المصارف اللبنانية بإعادة الأموال دون وجود اتفاق سياسي وقانوني شامل. هنا يبرز دور المنظمات الدولية كعنصر توازني ضروري، إذ يمكن للأمم المتحدة والبنك الدولي المساهمة بوضع إطار تقني وقانوني يفصل بين الأموال الشرعية وتلك المرتبطة بالفساد، وإنشاء آلية تعويض للمودعين الصغار، وضمان الشفافية والعدالة في إدارة المطالبات.