هكذا سيطرت "بارونات" المخدرات على مخيم شاتيلا

معارك بالأسلحة الخفيفة طيلة ثلاثة أيام بين تجار المخدرات في مخيم شاتيلا، دون تدخل فصائلي ليفصل على الأقل بين المتقاتلين، لا يدع مجالاً للشك أن اليد العليا في المخيم هي لتجار المخدرات، وأنهم المسيطرون على حياة سكانه الثلاثين ألفاً.

وأدت الاشتباكات إلى إصابة عدد من الأشخاص، من بينهم اثنان في حالة الخطر، كما أعلنت الأونروا إقفال مؤسساتها التعليمية والصحية، وعلّقت عملية إزالة النفايات. لكن كيف استطاع تجار المخدرات السيطرة على المخيم، واستخدامه سوقاً لترويج المخدرات، غير آبهين بوجود الفصائل الفلسطينية، أو مكترثين لتحذيراتها المعلنة؟

ظاهرة تجارة المخدرات
نشأت ظاهرة تجارة المخدرات في مخيم شاتيلا بعد عام 2005، وكان الأمر قبل هذا التاريخ محصوراً بالترويج داخل المخيم، بالخفاء، وليس بصورة علنية كما أخذ يبرز فيما بعد. وقد جرى استغلال عدة عوامل، منها أنه في ذلك العام بدأ الانهيار الأمني في لبنان، وأدى إلى ترهل في عمل بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية.

وبالمقابل كان المخيم يشهد ذروة الانقسام في عمل الإدارة سواء في اللجنة الشعبية التي أصبحت لجنتين، واحدة تمثل منظمة التحرير الفلسطينية، وأخرى تمثل قوى التحالف الفلسطيني، أو في القرار والهيكل الأمني، الذي عاد وانقسم، بعد أن كانت قيادته معقودة للتحالف، بسبب وجود القوات السورية، لكن بعد الانسحاب السوري أصبح هناك تعدد في القرار الأمني، ولا يعني ذلك أن الأمن قبل ذلك التاريخ كان مستتباً تماماً، لكن كان هناك جهة واحدة تخضع للملامة الشعبية، فتحرص على عدم التحدي المباشر والواضح للمجتمع.

العامل الثالث هو الواقع الاجتماعي لمخيم شاتيلا، الأكثر بؤساً بين المخيمات الفلسطينية الاثني عشر. هذا الواقع هو نتيجة المذبحة الشهيرة، وما تبعها من حروب أدّت إلى تضرر جسدي مباشر لمعظم السكان ما بين موت أو إصابة بجروح. إضافة إلى أن الهجرة الواسعة من المخيم، وقدوم لبنانيين وسوريين، قاد إلى تضاعف البناء العشوائي، الذي ترك انعكاسه على الأوضاع الاجتماعية. إضافة إلى نسبة البطالة العالية، إذ إن أكثر من نصف شباب المخيم عاطل عن العمل، مع أن إحصاء يعود إلى عام 1979 يشير إلى أنه لم يكن في المخيم أكثر من 138 عاطلاً عن العمل.

كانت هذه البيئة نموذجية لتجار المخدرات خارج المخيم، ليقيموا سوقهم الترويجي عند الشارع الشرقي الرئيسي للمخيم، والقريب أيضاً من الجوار، وتشييد ما سيُعرف بمنطقة الهنغارات. السوق الذي بدأ سرياً وصغيراً، سرعان ما ستزداد جرأة المروّجين من خلاله، ويصبح سوقاً علنياً يستقطب المتعاطين من مناطق عديدة، فيما سيتحوّل بعض مروّجي المخدرات في المخيم، إلى تجار أو "بارونات مخدرات"، كما يحلو للبعض تسميتهم.

انتفاضة ضد المخدرات
عام 2016 شهد مخيم شاتيلا انتفاضة كبرى ضد تجار المخدرات، حيث اجتمعت العائلات، وشكلت لجاناً للضغط على الفصائل لدفعها باتجاه التحرك الفوري، للقبض على تجار المخدرات وتسليمهم للسلطات اللبنانية. وسارت تظاهرات عديدة تحمل هذه المطالب. غادر بعض هؤلاء التجار المخيم، واختفى البعض الآخر عن الأنظار. فيما فضّل مدمنون الالتحاق بمراكز التأهيل.

كانت فرصة للفصائل الفلسطينية لإعادة الوصل بالجمهور الفلسطيني، لكنها لم تفعل، وآثرت ما يُشبه الانطواء. أثارت الاستغراب حينها، فتحركها لا يحتاج إلى جرأة إزاء شلل اعترى بنية تجارة المخدرات، فحتى الهنغارات لم يعد يتواجد فيها أحد، وتجار المخدرات غائبون تماماً عن المشهد. الأحداث اللاحقة ستثبت ما هو أفظع من الخوف، إنه التواطؤ الذي سيظهر، فلم يكن صمت بعض الفصائل مجانياً، بل بثمن كان يعجز الأهالي عن تصوره.

ستكشف الأحداث اللاحقة التشابك بين تجار المخدرات وبعض كوادر الفصائل الفلسطينية في المخيم، وسيستعيد هؤلاء التجار نفوذهم السابق. وعندما قُتل أهم تاجري مخدرات بلال عكّر وسمير بدران في عام 2017 بمشهد هوليودي، كان كل منهما القاتل والقتيل، لم تستثمر الفصائل الفلسطينية هذا الفراغ، بل تركت من يملأه من تجار المخدرات.

بعد عام 2016، فطن تجار المخدرات إلى أهمية التغيير في مروحة مساعديهم وحلفائهم، فكثفوا دعمهم المادي لبعض النافذين في فصائل محددة، وأتوا بفلسطينيين من سوريا أو سوريين، واتخذوهم مساعدين، مستغلين تخففهم من قيود العلاقات الاجتماعية التي تحدّ من الجموح العدواني تجاه المعارضين. وخلال الاشتباك الأخير كان لافتاً أن تاجرَي المخدرات وهما فلسطينيان من المخيم، بينما مُطلق النار الأول فلسطيني من اليرموك، والمصاب هو سوري، وهما مساعدان أساسيان للتاجرين (ع.ع و أ.ل).

الترفّع الفصائلي عن حاجات الناس، وغيابهم شبه التام عن الولوج في حل مشاكل الناس الاجتماعية، دفع ببعض تجار المخدرات لملء الفراغ، وراحوا يغدقون الأموال على محتاجين، لتظهير صورتهم من جهة، ومحاولة استقطاب شرائح فقيرة، مثبّتين بذلك سلوكاً إسكوبارياً. وتشير بعض المعلومات إلى أن عدد تجار المخدرات مع مساعديهم لا يتجاوز الخمسين، أي إن قراراً فصائلياً جدياً يستطيع شل حركتهم.

"برحمة علي"
عدا ما حفره علي أبو طوق في وجدان أهالي مخيم شاتيلا، فأن يُقسم أطفال المخيم "برحمة علي" الذي رحل قبل حوالي 40 عاماً، يعني فيما يعنيه رفضاً للزمن الحاضر، وانشداداً نحو تاريخ غابر، وأنه ليس هناك من استطاع من خلفائه أن يتمثّل ببعض صورته.

علي أبو طوق الذي يقول شفيق الغبرا في كتابه "حياة غير آمنة"، إنه لو كان في مكان آخر لرُفع إلى مرتبة غيفارا، أو القداسة. وفي قلعة الشقيف كُتب على أحد جدرانها "بناها بوفور، حررها صلاح الدين، وغيّر معالمها علي أبو طوق".

علي، الذي يقول عنه قائد السرية الطلابية معين الطاهر في كتابه "تبغ وزيتون"، لم يتألّم مقاتل إلا وكان علي بجانبه "تُرى كم مرّة جُرح علي؟ أحاول أن أتذكر، فهو قد جُرح الجرح فوق الجرح فوق الجرح". علي الذي كان يجوع ليطعم الناس في المخيم المحاصر، وإذا فاضت المجاري يشمّر عن ساعديه، وينزل لتنظيفها.
كيف خسر المخيم نخبته؟ بل كيف انهار النظام السياسي الفلسطيني في لبنان إلى هذا الحدّ؟ حدّ أن ترضى كوادر في فصائل فلسطينية بعض مال، لتسمح بتجارة المخدرات. كوادر تخاصمت بالسياسة، وتضامنت في سحق روح المخيم.