أطفال لبنان بخطر دائم في الشارع والحضانات والمدارس والمنازل

هو مشهد صادم أن نرى بأمّ أعيننا فيديو تعنيف أطفال داخل حضانة. ورغم ارتباطه بسياق تاريخي من الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق الأطفال والطفلات، لكنه كمشهد للعامة يسبب جرحًا شخصيًا. يثير ذلك الفيديو، الذي يُعدّ التقاطه اعتداءً موازيًا، مشاعر الخزي والمهانة والخجل، أمام طفل رضيع، لا يتكلم، ضعيف، يعبّر بالبكاء، ويعجز عن المقاومة. تشعر لوهلة أنه طفلك، حين تعنّفه تلك "المربية" غير الفاضلة، تشتمه، تهينه، "تدحش" الطعام بفمه إلى حدّ الاختناق، كما لو أنها تمارس فعلًا عاديًا بالنسبة لها ولإدارتها. وهو على الأرجح، فعلٌ انتقلت عدواه بين حضانات كثيرة، حتى صار مقبولًا ومتعارفًا عليه، كلغز سريّ، للمتاجرة بحاجة الأسر إلى رعاية بديلة لأطفالهم خلال ساعات محددة يوميًا.

ثم تشتد وطأة الخزي، حين تتذكر أن الفيديو هو مجرد مشهد ثوان لظاهرة ممتدة ومتنامية في آلاف الحضانات والمدارس والبيوت. بل تتغذى من نظام الإفلات من العقاب، ومن انحلال الدولة، ومن غياب القوانين الرعائية والحمائية للأطفال والطفلات في لبنان من شتى أشكال الانتهاكات والجرائم.

إجراء ما بعد الصدمة
وفي الإجراءات التي تندرج بإطار رد الفعل، وبعد الصدمة التي أثارتها المشاهد المرعبة لحادثة تعنيف الأطفال بلا رحمة داخل إحدى الحضانات في منطقة المتن الشمالي، أعلنت قوى الأمن الداخلي توقيف كلّ من المدعوّتين د. ح. (1979) وط. م. (1985). كما تمّ إقفال الحضانة بالشمع الأحمر بناءً على قرار وزير الصحة فراس الأبيض، داعيًا إلى "إنزال أقصى الإجراءات العقابية بحق المرتكبين".

وعلى إثر اجتماع ترأسه الأبيض للجنة حماية الأحداث في الوزارة، أعلن سحب ترخيص حضانة GardeRêve تبعًا لحادثة تعنيف الأطفال فيها. 
ومما أعلنه الأبيض أيضًا:

- دعوة لتحديث المراسيم والقوانين المتعلقة بحماية الطفل والأحداث.

- زيادة المعلومات عن الحضانات المرخصة والموجودة على الموقع الإلكتروني لوزارة الصحة العامة، لتمكين الأهل من معرفة المزيد من المعلومات عنها.

- ضرورة التأكد من التزام الحضانات بالقوانين المرعية، بدءًا من وجود الكاميرات المطلوبة إلى حصول العاملين في الحضانة على الشهادات اللازمة وإخضاعهم للتقييم الدوري.

- تكثيف زيارات الجهات المراقبة بما فيها الزيارات الفجائية للتأكد من التزام الحضانات بالقوانين.

- اعتماد سياسة عدم التسامح مطلقًا مع أي حضانة لا تلتزم بالمعايير المطلوبة.

ويأتي إجراء الأبيض بعدما أعلنت القاضية المنفردة في بعبدا الناظرة في قضايا أحداث في جبل لبنان، جويل أبو حيدر، قرارًا بمنع الحضانة من فتح أبوابها، وتم إقفالها بالشمع الأحمر.

مسلسل الجرائم
وواقع الحال، يكاد لا يمر أسبوع من دون أن يضج الرأي العام اللبناني بأخبار حول انتهاكات وجرائم ترتكب بحق الأطفال والطفلات والقاصرين/ات. وإن دلّ ذلك على شيء، فهو انحلال البنية الحاضنة لنشأة شريحة واسعة من الأطفال، الذين يتسولون ويعملون في الشوارع، أو يُنتهكون في الحضانات والمدارس وحتى بيوت ذويهم، ويتعرضون للعنف اللفظي والجسدي، ويصل أحيانًا لدرجة التحرش أو الاغتصاب والقتل عمدًا.

ويأتي الانتهاك الكبير في الحضانة، بعد نحو أسبوع واحد على جريمة مقتل الطفلة لين طالب في المنية، البالغة ست سنوات، نتيجة نزيف حاد على إثر اعتداء جنسي تعرضت له على مدار أيام في بيت أحد أفراد عائلتها. كما تأتي بعد أيام من تعرض طفلة سورية تبلغ 13 عامًا، لاعتداء جنسي في البقاع من قبل سائق "توك توك"، وغيرها الكثير من الجرائم المماثلة.

ويذكر مشهد الحضانة أيضًا، بحادثة التحرش الجنسي بحق عشرات الطالبات القاصرات، التي ضج بها لبنان قبل نحو عامين، في مدرسة ثانوية جورج صراف في طرابلس.

ناهيك عن مئات عمليات الخطف والابتزاز والاعتداء الجنسي، التي تعكس جميعها خطورة واقع الأطفال والقاصرين/ات في لبنان، سواء في الشارع أو الحضانات أو المدارس أو المنازل. وهو واقع يؤكد أنهم من الفئات الأكثر استضعافًا في بلد تحكمه الفوضى.

جريمة بأبعاد متعددة
وفي حديث مع "المدن"، تقول الخبيرة الدولية في حماية الطفل، زينة علوش، بأن الفيديو المسرب من الحضانة، يؤكد أن ما شاهده اللبنانيون جريمة. لأن الفيديوهات "صادمة بوحشيتها، ومن صوّر الفيديو ووثقه، وحشيته مضاعفة، لأن هناك الفاعل، وهناك الشاهد على الفعل الذي لم يتحرك ليوقفه".

وتصف علوش ما شاهدته بجريمة ضد الإنسانية داخل دار حضانة، وظيفتها الأساسية توفير رعاية بديلة للطفل.

وفي إطار السجال العام، كان لافتًا توجه شريحة من اللبنانيين، إلى لوم الأهالي، وتحديدًا الأمهات على وضع أطفالهن في دور الحضانة. وجسد اللوم عنفًا مجتمعيًا مضاعفًا بحق الأمهات العاملات، اللواتي يكافحن في بلد بلا إجازة أمومة كافية، ويتحملن غالبًا وحدهن مسؤولية تربية أبنائهن من دون شراكة حقيقية مع الآباء.

وهنا، تعقب زينة علوش بالقول: "الحضانة خيار طبيعي، وحق لكل طفل بحسب حاجة أهله لهذه الخدمة البديلة. إذ لا يمكن أبدًا أن نلوم الأهل، لأن الحضانات خدمة أساسية، وحق من حقوق الأطفال، خصوصًا ما بعد العام الأول من الولادة، لأنه مكان من المفترض أن يعزز العلاقات الاجتماعية ويحفز الأطفال؛ بينما الأهل بحاجة لمكان بديل آمن لوضع أطفالهم حتى يعملوا براحة بال، ويؤمنوا لهم قوت عيشهم وتكاليف رعايتهم وتعليمهم".

وتؤكد علوش على أن الحدث جريمة صادمة حتى لو جاء في سياق تدهور عام لحقوق الأطفال والطفلات، نتيجة الأزمة المتعددة الأبعاد، وانهيار نظام الدولة وخدماتها الحقوقية، والتي من واجبها ضمان حقوق المواطنين.

والإصرار على وصفها بالجريمة الصادمة، "للتأكيد على رفض هذا النوع من الجرائم، ورفض أي تبرير لوحشية الفاعل أو الفاعلة".

وعن المقارنة بين حادث تعرض طفل للضرب بحضانة، وجريمة الاعتداء على جسد طفلة المنية لحد الموت، تعلق علوش: "لا مجال للمقارنة بين جريمة وأخرى. وكل جريمة ضد الأطفال، هي جريمة موجعة وصادمة ويجب رفع الصوت ضدها وفضح المرتكبين وسوقهم للعدالة. مع التشديد على مسؤولية الدولة عن نظام ترخيص ومراقبة ومتابعة وتقييم المساحات التي يتواجد فيها الأطفال وتشديد القوانين الأسرية".  

وتعتبر علوش أن الأزمة الاقتصادية لا تبرر التقاعس عن القيام بالواجبات، وإلا فلتعلن الحكومة فشلها وتعلن أننا بدولة غابة".

وتذكر علوش أن الأطفال والطفلات هم الحلقة الأضعف مع غياب نظام حماية متكامل، وأن ما ينشره الإعلام هو فقط رأس جبل الجليد.

وتعود إلى مشهد رأته قبل أيام عند عبورها على خط أوتستراد سريع، حيث رأت علوش طفلا لا يتجاوز خمس سنوات، يلصق جسمه على الفاصل الإسمنتي الوسط بين الخطين السريعين، وبدا الرعب الهائل على وجهه وحيدًا عند التاسعة ليلًا. هذا المشهد، "كاستعارة لواقع الأطفال في لبنان، على أنهم متروكون على طريق سريع بالعتمة، في أفق مسدود وبلا شبكة أمان".

وتضيء على عمل الجمعيات بالقول: "رغم ملايين الدولارات التي تنفق حالياً في سوق العمل الاجتماعي في لبنان، ما زال الطفل متروكاً وحيدًا كأنه على طريق مظلم ومعتم. إذ لا بد من رفع الصوت والمطالبة بالحقوق والحماية، وأن توظف ملايين الدولارات بالمكان الصحيح وترشيد الأموال لخدمة الأطفال".

قانون معطل
عمليًا، ينص قانون حماية الأحداث على أن الحدث هو من لم يتم الثامنة عشرة، وأعطى اهتمامًا لفئتين من الأحداث يحتاجون لتدابير حمائية: المخالفين للقانون الجزائي، أو المعرضين للخطر إما من الغير أو من تصرفاتهم الشخصية وسوء سلوكهم.

وتعتبر علوش أن قانون حماية الأطفال الموجود في لبنان، يتعاطى مع العنف ولا يركز على إلزامية الوقاية. و"هنا القصور الكبير بالقانون، الذي لا يوفر مظلة تدابير للحماية والوقاية ما قبل الاعتداءات".

وتقول: "نظام حماية الأطفال لا بد أن يكون متكاملًا، يبدأ من مجانية وإلزامية التعليم ويمتد إلى الحماية من عمالة الأطفال وصولًا إلى نظام حضانات متكامل". وتجد أن ثمة قصورًا على مستويات عدة، بظل غياب الحياة كريمة لكل الأسر في لبنان. فـ"نحن حاليًا في حالة طوارئ تستدعي فتح العيون لالتقاط مؤشرات الاعتداء قبل حدوثه. وهذه دعوة لكل الفاعلين والفاعلات في إطار حماية الأطفال للتركيز على الوقاية، مع تأكيد على إعداد قوانين تجرم الفاعل، ومن يتخلف عن تنفيذ إجراءات الوقاية".