المصدر: الجمهورية
الكاتب: جورج شاهين
الخميس 4 كانون الاول 2025 07:44:59
بدلاً من التهديدات التي أطلقها مسؤولون إسرائيليون عبر سيناريوهات الحرب على لبنان، والتي سبقت زيارة قداسة البابا للبنان، ورافقتها حتى مغادرته إلى الفاتيكان، ما لم ينه الجيش حصر سلاح «حزب الله»، تبدّلت اللهجة الإسرائيلية فجأة صباح أمس، ليتحدث مكتب بنيامين نتنياهو عن تكليف «فريق إسرائيلي للقاء مسؤولين حكوميين لبنانيين، في محاولة أولى لترسيخ أسس العلاقات الاقتصادية بين الطرفين». وهو ما أوحى بتوجّه محتمل لتقدّم الخيارات الديبلوماسية، على رغم من استغراب اللبنانيين هذا المنحى. وعليه، هل تبدّلت الأجواء لمجرد تكليف السفير سيمون كرم رئاسة وفد لبنان إلى المفاوضات؟
قبل زيارة البابا وخلالها وبعدها، لم يتوقف الحديث عن سيناريوهات الحرب على لبنان وتوقيت الاعتداء الإسرائيلي المحتمل وشكله وحجمه، ما لم تكتمل الشروط التي وُضعت للانتقال من مرحلة «تجميد العمليات العدائية» إلى وقف شامل ونهائي لإطلاق النار. وإن كان أبرزها الإنتهاء من «حصر السلاح» الخاص بـ «حزب الله»، ووضعه في تصرف الجيش اللبناني والقوى العسكرية والأمنية اللبنانية في كل لبنان، تبين انّ هناك خيارات سياسية وديبلوماسية أخرى محتملة. وهو ما اجتهدت من أجله مجموعة من المبادرات الغربية والعربية، عدا عن الأميركية منها. وهي التي انطلقت قبل فترة تزامناً مع التهديدات الإسرائيلية التي تحدثت عن مجموعة من السيناريوهات المنطقية وغير المنطقية. ولكنها ما زالت في لحظة من التردّد والجمود، في انتظار أن يبدّل «الثنائي الشيعي» وخصوصاً «حزب الله» من موقفه الداعي إلى الخيارات العسكرية والأمنية رداً على اغتيال رئيس الأركان في الحزب هيثم علي الطبطبائي في أي وقت تختاره المقاومة. وهو موقف ما زال يخضع للتدقيق، لاستحالة اللجوء إليه طالما انّ العجز قد ثبت لجهة حماية قادته في معظم المناطق اللبنانية، ومعهم مراكزهم وما تبقّى من مخازن أسلحة ومصانع تجميع الصواريخ والطائرات المسيّرة المموهة.
وعلى وقع هذه الروايات، التي لم ترق بعد إلى ما يمكن ان يؤدي إلى أي تغيير إيجابي في الستاتيكو العسكري السلبي، القائم على نوع من الاستنزاف القاتل نتيجة العدوان الإسرائيلي المتمادي من دون أي رادع محلياً كان، او اقليمياً، دولياً أو أممياً، ظهرت صباح أمس بوادر تحولات محتملة في مجرى المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومجموعة الدول الخليجية والعربية، بتسمية السفير اللبناني الأسبق في واشنطن سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني إلى اجتماعات اللجنة الخماسية المكلّفة تنفيذ مراحل تطبيق «تفاهم 27 تشرين الثاني 2024» ومراقبتها، في مقابل تسمية الحكومة الإسرائيلية أمس عضو مجلس الأمن القومي أوري رزنيك ليرأس الوفد الإسرائيلي المفاوض مع لبنان.
وفي انتظار فهم النتائج التي انتهت إليها الجولة الرابعة عشرة من اجتماعات «الميكانيزم»، بقيت الأسئلة المطروحة بأكثريتها ربطاً بالنتائج التي يمكن ان تُقدم عليها واشنطن راعية أعمال اللجنة، إن كانت مصرّة على تطبيق التفاهم. ذلك انّ هناك خطوات سبق لواشنطن أن تعهّدت بها في مناسبات عدة ولم يُطبّق أي منها، في انتظار التثبت من قدرة الجيش اللبناني على تطبيق خطة الحكومة في شأن حصر السلاح وتعزيز قواته إلى جانب «اليونيفيل» في جنوب الليطاني. ذلك انّ الإشادات السابقة من القيادة العسكرية الأميركية الوسطى بما أنجزه الجيش في منطقة العمليات الجنوبية قد تجمّدت عملياً بقرار تأجيل زيارة قائد الجيش العماد رودولف هيكل لواشنطن، وهي تنتظر تقويماً جديداً للوضع في الجنوب، يجري العمل من أجله على أكثر من مستوى. وجاءت هذه الخطوة بعدما اكّدت القيادة الأميركية انّ الربط بين قرار تأجيل زيارة هيكل لواشنطن وطريقة التعاطي مع الجيش اللبناني غير منطقي، إن لم يقل إنّه غير مجدٍ. فكل ما هو مخصص للجيش من مساعدات وهبات لم لن يتبدّل تحت أي ظرف، وانّ الأمور ترتكز على نظرة أميركية ثابتة في هذا الاتجاه، وهو ما يعرفه من يجب أن يكون على علم به من المسؤولين اللبنانيين، ولا يدركه أصحاب «الرؤوس الحامية» الذين أسرفوا التداول في ما لا يفقهونه، أو أنّهم يتمنونه عند البحث في هذا الموضوع، في وقت ارتفعت نسبة المزايدات إلى ما لا يُحتمل أحياناً.
على هذه الخلفيات، تساءلت مراجع ديبلوماسية واستخبارية عن الأسباب التي دفعت إلى رفع مستوى التهديدات الإسرائيلية، ولا سيما منها الحديث عن استنفار في المنطقة الحدودية الشمالية والاستعدادات لعملية عسكرية برية في جنوب لبنان. وسألت: إن صحّت هذه السيناريوهات وخرجت عن كونها تهويلاً، فمن تستهدف هذه الإجراءات؟ ومع من ستكون المواجهة؟
وفي الوقت الذي لا تنتظر هذه المراجع جواباً اسرائيلياً او من أي جهة كانت، قالت إنّ أي مواجهة في الجنوب لن تكون مع «مقاتلين إرهابيين» او «مسلحين غير شرعيين»، فهم باتوا في شمال مجرى نهر الليطاني، وليس في الجنوب سوى الجيش اللبناني الذي انتشر في أكثر من 200 موقع حتى الأمس القريب، واقترب عديده من 10 آلاف ضابط وجندي، وهم في مواجهة المواقع الإسرائيلية المحتلة، وعلى استعداد لملء الفراغ المطلوب بعد انسحاب الإسرائيليين إن ارادوا وقفاً شاملاً للنار. وعليهم أن لا ينسوا انّ إلى جانبهم حتى اليوم عدداً مماثلاً من ضباط قوات «اليونيفيل» وجنودها ووحداتها، التي لم تقلّص عديدها على ارض الجنوب، وانّ ما طال بعض قواها من تقليص، اقتصر حتى اليوم على القوة البحرية وعدد قليل من التقنيين والإداريين، وانّ القوة الكافية لضمان الأمن إلى جانب الجيش لن تُمسّ في عديدها وتجهيزاتها قبل منتصف السنة المقبلة بنحو متدرج ومدروس حتى مطلع سنة 2027 التي في ختامها ستنتهي مهمّتها.
على هذه الخلفيات تراهن مراجع ديبلوماسية مطلعة على ما يمكن ان يؤدي اليه رفع مستوى المفاوضات، من التقنيين العسكريين إلى الحدّ الأدنى من التمثيل المدني لا الديبلوماسي ولا الرسمي. فلبنان سيستمر في المفاوضات وفق الآليات المعتمدة. ولعلّ في التجارب السابقة التي أدّت إلى ترسيم الحدود البحرية نموذج يُحتذى به، ولا حاجة للبحث عن إجماع لبناني، فهو متوافر بالحدّ المطلوب للخطوة، ولا خلاف في شأنها، وإن وجد من يعارض فسيبقى في موقفه معزولاً، إن لم يكن محاصراً. فالتهديدات على الأبواب ولن يسمح القادة اللبنانيون بفتح الباب المؤدي الى جهنم مرّة أخرى لتتكفّل الإدارة الأميركية بلجم جموح القيادة الإسرائيلية وسط رهان كبير على زيارة نتنياهو للبيت الابيض لجلاء العتب الأميركي من توجّهاته في سوريا قبل لبنان، الذي ما زال قادراً على إزالة كثير من أسباب الطحشة الإسرائيلية، إلى أن تتحول غير مبررة، وهو أمر تعززه القيادة اللبنانية بتوحيد الموقف الرسمي من الخطوة، وهو متوافر في السرّ والعلن، ولن يتجرأ أحد على معارضة الخطوة الكبيرة التي أقدم عليها لبنان أمس.