اتفاق الطائف حلٌّ أجدر للأزمة اللبنانية: بدءاً من حلّ الميليشيات حتّى اللامركزية الإدارية الموسعة

تستطيع أسس اتفاق الطائف تبريد هواجس المكوّنات اللبنانية على تنوّعها التي لا تزال تنادي في ضرورة تطبيقه حتى اللحظة رغم أنه لا يجد سبيلاً تنفيذياً، بعد أن كان إقرار الاتفاق قد ساهم في إخماد لهيب الحرب الأهلية آخذاً في الاعتبار مضامين متعدّدة طالبت بها المكونات المتصارعة.

وتلاقى الطائف مع بعض طروحات أحزاب من الجبهة اللبنانية التي تشكّلت من القوى المسيحية حينذاك، بدءاً من حلّ الميليشيات وتسليم أسلحتها إلى الدولة بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني مع ضرورة إقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية وتعزيز القوات المسلّحة وقوى الأمن الداخلي بما يتناسب وضبط عمليات دخول الأشخاص أو خروجهم عبر الحدود برّاً وبحراً وجوّاً. وحدّد الاتفاق المهمة الأساسية للقوات المسلحة في الدفاع عن الوطن وحماية النظام العام عند الضرورة إذا كان الخطر أكبر من قدرة قوى الأمن الداخلي على معالجته. وأكّد اتّفاق الطائف الإبقاء على النظام الاقتصادي الحرّ الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة الذي يشكّل بمثابة مطلب تاريخيّ للقوى المسيحيّة. وأبقى الميثاق الوطني على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وبعدما كان بعض أقطاب الجبهة اللبنانية طالبوا بتحديثات لامركزية موسّعة أو بالنظام الفيدراليّ في زحمة اشتداد تساقط القنابل، نصّ اتفاق الطائف على اللامركزية الإدارية الموسعة على نطاق الوحدات الإدارية الصغرى عن طريق انتخاب مجلس لكلّ قضاء مع خطة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وتعزيز موارد البلديات بالإمكانات المالية اللازمة.

تنصّ تفاصيل اتفاق الطائف على مندرجات لم تكن بعيدة أيضاً عن مطالب أساسيّة لأقطاب الحركة الوطنية الذين أعدّوا برنامجاً مرحلّياً بعد أشهر قليلة على بدء احتدام الحرب الأهلية عام 1975 الذي كان هدف حينذاك للإصلاح الديموقراطي للنظام السياسي اللبنانيّ. ولا تزال تعتبر أحزاب عدّة ذلك البرنامج مرجعاً لحلّ الأزمات الحالية. ولا يغفل الحزب التقدمي الاشتراكي تفاصيل البرنامج تزامناً مع ذكرى اغتيال رئيس الحركة الوطنية الشهيد كمال جنبلاط، والذي نصّ بشكلٍ خاصّ على ضرورة إلغاء الطائفية السياسية للانطلاق في الحلّ الديموقراطي العلماني وإلغاء الأساس الطائفي للنظام اللبناني، في اعتباره الاختيار الوحيد المنسجم مع الجماهير اللبنانية التي تريد نظاماً وطنياً ديموقراطياً متقدماً. وركّزت الأحزاب التقدمية بعد احتدام أجيج الحرب الأهلية اللبنانية عامذاك على أهمية إلغاء الطائفية من النصوص الدستورية والتشريعية والنظامية وعلى الصعيد الاجتماعي السياسي بهدف العلمنة الكاملة للنظام السياسي. وكانت اقترحت الحركة الوطنية إنهاء الطائفية السياسية عبر الحدّ منها في الإدارة والقضاء والجيش وتحرير الحياة السياسية من البنية الطائفية المتحجّرة.

عندما أراد اتفاق الطائف البحث عن حلول تسهم في خفوت القنابل الحربية لم يغب عنه إلغاء الطائفية السياسية بعد اعتباره بمثابة هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية. ومن توصياته، ضرورة اتخاذ مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين الإجراءات الملائمة تحقيقاً للهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. وتتمحور مهمة الهيئة حول دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. ولم يغفل اتفاق الطائف مرحلة انتقالية فحواها إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاية والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وما يعادل الفئة الأولى. وفيما كانت الحركة الوطنية تنطلق من ضرورة تطوير مفهوم الحقوق والحريات الديموقراطية والعامة في الدستور والقوانين بحيث يشمل الحقوق الإقتصادية والاجتماعية للمواطنين، أتى اتفاق الطائف ليبلور هذه التفاصيل في مندرجات النصّ الدستوريّ.

لماذا تطرح حالياً اقتراحات دستورية كانت حصلت المناداة بها في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية بدءاً من عام 1975، ومنها المقترحات الفيدرالية أو اللامركزية أو إعادة التذكير ببرنامج الحركة الوطنية؟ وهل سبّب عدم تطبيق اتفاق الطائف تفاقم الهواجس السابقة للمكونات اللبنانية؟

يقول رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق والخبير الدستوري القاضي غالب غانم لـ"النهار" إن "الصيغة اللبنانية وصلت للقواسم المشتركة بين المكونات اللبنانية بدءاً من صيغة 1943 ثم اتفاق الطائف الذي شكّل مجموعة توازنات من الناحية السياسية والاجتماعية التي كانت كفيلة لو أنها استثمرت وطبّقت في إبعاد لبنان عن الطروحات الموجودة اليوم والمتعلقة في الانقلاب على الدستور والنظام. لا مانع من تعديل الدستور لكن لا بد أن ينطلق أي تطوير من مندرجات الدستور. لو أن القانون الدستوريّ نفّذ في الشكل السليم لكانت كلّ المكوّنات اللبنانية اجتمعت حول نظام الحكم. لكن، إن القفزة في المجهول من أجل تطوير النظام حالياً لن تؤدي إلى ما يريده اللبنانيون. إنّ تطبيق الطائف شمولاً في إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس للشيوخ واضطلاع الحكومات بدورها سيسهم في التصدي للهواجس الحالية لدى اللبنانيين".

وفق انطباعات غالب غانم، "لا بدّ أي تطوير أن يأتي على أساس نصّ اتفاق الطائف الذي حافظ على التوازنات اللبنانية فيما لا يعتبر لبنان بلداً طائفياً إنما يراعي الدين وسط نظامٍ برلماني يأخذ في الاعتبار الانتماءات التي يتكوّن منها النسيج اللبناني مع ضرورة أن يركّز أي تطوير على التوازنات. ومن الضروري، تطبيق اتفاق الطائف قبل أي تطوير لأن تنفيذ مندرجات الاتفاق يسهم في معرفة الحسنات والسيئات. وطالما أن لبنان يعيش ضمن ساحة في الصراعات الإقليمية والعالمية، لا بد من التريث في موضوع تطوير الدستور اللبناني".

ويستنتج أن "المرحلة ليست مناسبة حالياً للبحث في تطوير الصيغة اللبنانية في ظلّ التطرف. وإذا كانت الطروحات القديمة موجودة بين مشروعين متقابلين إلا أن الصيغة الدستورية وسطية بين كل المكونات اللبنانية، ومن الضروري أخذ الميزات اللبنانية في الاعتبار وانتقاء اللحظة المناسبة تطويراً للدستور مع أهمية تنفيذ مندرجاته بانتظار الأفضل على أن تكون الدولة قادرة على تطبيق صلاحياتها".