المصدر: الديار
الكاتب: ربى أبو فاضل
الأحد 14 كانون الاول 2025 07:56:15
ما يبدأ كمحادثة عابرة أو مشاركة صورة بثقة قد يتحول سريعا إلى تهديد قادر على قلب حياة أسرة بأكملها، ففي عصر اختلطت فيه حدود الواقع بالفضاء الرقمي، لم يعد الابتزاز يختبئ خلف أبواب من حديد، بل بات يطرق شاشات الهواتف وصناديق الرسائل، مستهدفا أضعف الفئات، عنف صامت يسرق الأمان ويزرع الخوف والعار في قلوب أطفال ومراهقين لا يملكون بعد الخبرة الكافية لمواجهة هذا الخطر الخفي.
وفي لبنان، حيث ارتفعت ساعات استخدام الإنترنت بين الشباب بالتوازي مع تراجع الفرص الاجتماعية والاقتصادية، تكشف شكاوى الأهالي وبلاغات قوى الأمن الداخلي عن تنامي شبكة معقدة من أساليب الاحتيال النفسي والاستدراج الجنسي الرقمي، تترصد ضحاياها بصمت، وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.
الجامعة الأنطونيّة نشرت عام 2017 دراسة حول استخدام الأطفال والمراهقين للإنترنت في لبنان، تبين أن 66% من تلامذة المدارس الذين شملهم الإحصاء يتواصلون مع شخص غريب، وأن 73% من المستفتين في الميدان من الأطفال خارج المدارس، متصلون بغريب.
الاختصاصية في تربية الأطفال وعلم النفس العيادي و العلاج النفسي، رين فؤاد الراعي، ترى أن "الابتزاز الرقمي يعد من أخطر أشكال العنف الذي يستهدف الأطفال والمراهقين، لأنهم أرض خصبة لهذا النوع من الجرائم، إذ لم يبلغوا بعد مستوى الوعي والنضج الذي يملكه الراشدون، ما يجعلهم أكثر عرضة للتلاعب والخداع" وتشدد خلال حديث لـ"الديار" على أن "الأطفال والمراهقين الذين يحظون بحماية أسرية، وتواصل صحي مع أهلهم، ووعي رقمي مبكر، يكونون أقل عرضة للوقوع في فخ الابتزاز".
وتعرف الراعي الابتزاز الرقمي بأنه "عملية تهديد أو ضغط يمارس على شخص بهدف انتزاع شيء منه، غالبا مال أو معلومات شخصية حساسة أو خدمات غير مشروعة"، وتوضح أن هذه العملية تعتمد أساسا على التهديد، سواء بنشر معلومات سرية أو فضائح أو الإساءة إلى سمعة الضحية في حال عدم تلبية المطالب.
وتشير إلى أن "الابتزاز، بمختلف أشكاله، يعد جريمة يعاقب عليها القانون في العديد من الدول، لما ينطوي عليه من انتهاك مباشر للخصوصية والكرامة الإنسانية، ولما يسببه من أضرار نفسية واجتماعية عميقة، لا سيما عندما تستهدف الأطفال والمراهقين".
في لبنان، يندرج الابتزاز الإلكتروني ضمن الجرائم المجرمة قانونيا، خصوصا عندما تستهدف الأطفال والمراهقين، فـقانون الجرائم الإلكترونية رقم 140/2018 يجرم استخدام الوسائل الرقمية للتهديد أو الحصول على معلومات شخصية أو أموال بالقوة أو الخداع، ويعاقب عليها بالسجن والغرامة، كما تكفل قوانين حماية الطفل للضحايا الحق في التبليغ والملاحقة القانونية للمبتزين، مع إمكان تقديم دعاوى مدنية لتعويض الأضرار النفسية والمعنوية الناتجة من هذه الجرائم. ومع ذلك، يواجه تطبيق هذه القوانين تحديات بسبب ضعف الرقابة التقنية والخبرة في التعامل مع الجرائم الرقمية، ما يجعل التوعية الأسرية والقانونية جزءًا أساسيًا من الحماية.
وتؤكد الراعي أن "الابتزاز الإلكتروني يشكل قضية حساسة جدا، لما له من انعكاسات مباشرة على الأمن الشخصي والاجتماعي للأطفال والمراهقين"، وتوضح أن "تداعياته تبدأ غالبا بصدمة نفسية قوية قد تستمر آثارها على حياتهم المستقبلية، إذ يوضع الطفل أو المراهق في موقف محرج يتم فيه استغلال صورته أو معلوماته الشخصية أو تهديد كيانه النفسي".
وتشير إلى أن "هذه الصدمة غالبا ما تترافق مع مشاعر القلق والاكتئاب، ما قد يدفع الضحية إلى العزلة الاجتماعية والابتعاد عن الأصدقاء والعائلة، ويؤثر مباشرة في الثقة بالآخرين، ويجعل من الصعب عليه بناء علاقات صحية مستقبلية، ما يترك أثرا طويل المدى في نموه النفسي والاجتماعي".
لماذا يتعرض الأطفال والمراهقون لهذه التجارب السيئة؟ تجيب الراعي أن "السبب الأساسي يكمن في البيئة المحيطة بهم فالكنف الأسري والبيت المفروض أن يكونا مصدر الأمان والاستقرار، بحيث يشعر الطفل أنه يستطيع اللجوء إلى أسرته دون خوف أو خجل، وعندما يفتقد هذا الأمان، يصبح الطفل أكثر هشاشة أمام الاستغلال سواء عبر الإنترنت أو من أشخاص في الحياة الواقعية".
وتضيف أن "الأطفال الذين يفتقرون إلى الدعم الأسري المباشر يسعون لتعويض شعورهم بعدم الأمان، ما يجعلهم أكثر عرضة للتلاعب الرقمي، خصوصا أولئك الذين يعانون من نقص عاطفي أو يبحثون عن الشهرة والانتباه عبر وسائل التواصل الاجتماعي".
وتشير الراعي إلى أن "العامل الثاني للحماية يكمن في الوعي والتثقيف داخل العائلة فحتى في وجود الأمان الأسري، من الضروري تعليم الأبناء حدود التعامل مع الآخرين، سواء في الحياة اليومية أو عبر الإنترنت، وعدم السماح لهم بالتواصل بحرية مطلقة مع أشخاص مجهولين أو مشاركة معلومات شخصية عن أنفسهم أو العائلة".
وتشدد الراعي على أن "التثقيف الأسري أمر أساسي، والأهم ألا يطلب أحد من الطفل أو المراهق أن يظهر أي جزء من جسده، إذ تنشأ أغلب حالات الابتزاز من هذا النوع من الطلبات، كما يجب أن يفهم الأطفال أن لهم الحق الكامل في رفض أي طلب مهما كانت الإغراءات، لأنها تستهدف حاجاتهم ورغباتهم الشخصية لإخضاعهم للاستغلال".
وتوضح أن "وسائل التواصل الاجتماعي قد تسهل وصول التأثيرات السلبية بسرعة، وفي غياب التوجيه الصحيح قد يصدق الأطفال الحقائق المشوهة ويتبنون تصرفات خاطئة، لذلك يصبح دور الأهل والمربين حيويا في نشر الثقافة الرقمية، مراقبة تصرفات الأبناء، ومعرفة من يتواصلون معهم ومن يشاركهم معلومات شخصية".
وتؤكد الراعي أن "التواصل المستمر والمفتوح مع الأطفال والمراهقين هو مفتاح الحماية، من خلال أسئلة بسيطة مثل: "كيف كان نهارك؟" أو "ما الذي أزعجك اليوم؟"، ليتمكن الطفل من التعبير عن تجاربه السلبية دون خوف أو خجل".
وتضيف أن "استخدام أدوات ووسائل الأمان الرقمية، وبرامج مراقبة الأجهزة الإلكترونية، والحد من الوقت المفرط أمام الشاشات يمنح الأطفال فرصة لتجارب واقعية وآمنة بعيدا عن تأثيرات العالم الافتراضي كما يجب أن يكون لدى الطفل خطة واضحة للتصرف عند التعرض لأي تهديد أو ابتزاز، مثل التواصل مباشرة مع الأهل أو أقارب موثوق بهم، أو التوجه لإدارة المدرسة، وعدم الاستجابة للضاغط".
وتؤكد أن "بعد وقوع الابتزاز، يجب الاحتفاظ بكل الرسائل والمراسلات أو أي أدلة تثبت الواقعة، وعدم حذفها، لأنها قد تستخدم لتقديم شكوى أو للإبلاغ إلى السلطات المختصة، كما أن الدعم النفسي أمر أساسي، ويجب أن يقدمه مختصون نفسيون واجتماعيون، مع إشراك الأهل، إذ إن الابتزاز لا يؤثر فقط في الطفل، بل يشكل أزمة للعائلة بأكملها".
وتحرص قوى الأمن الداخلي على سرية التحقيقات المتعلقة بالحوادث والجرائم الالكترونية، وتبذل كل جهد لمساعدة الضحايا في مواجهة أي تهديد إلكتروني، ويمكن الإبلاغ عن أي جريمة أو خطر إلكتروني عبر مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية على الرقم 01/293293، أو عبر الموقع الإلكتروني الرسمي لقوى الأمن الداخلي.
وتشدد الراعي على أن "الأهل هم الركيزة الأساسية في حماية الطفل والمراهق، والتربية لا يجب أن تكون مشروطة بمحبة مرتبطة بالسلوك أو الطاعة، فالطفل يجب أن يشعر بأنه محبوب كما هو، وأن وجوده في الحياة ذو قيمة، ما يعزز شعوره بالأمان وقدرته على حماية نفسه واحترام الآخرين".
في النهاية، يبقى الابتزاز الرقمي تهديدا صامتا يستهدف الأطفال والمراهقين، لكن الوقاية ممكنة بالوعي الأسري، التواصل المفتوح، والتعليم الرقمي، إلى جانب حماية القانون، في عالم يلتقي فيه الواقع بالفضاء الافتراضي، المعرفة والحماية هما خط الدفاع الأول لضمان نمو آمن وثقة مستمرة لدى الأجيال المقبلة.