المصدر: النهار
الكاتب: اسكندر خشاشو
الثلاثاء 16 كانون الاول 2025 07:55:07
يعود ملفّ ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص إلى الواجهة مجدداً بعد إعلان أنقرة امتعاضها من الاتفاق الثنائي، معتبرة أنّه "يمسّ بحقوقها ومصالح جمهورية شمال قبرص التركية" غير المعترف بها دولياً. ومع أن الخطاب التركي بدا عالي النبرة، إلا أن جوهر السؤال الذي يتقدّم اليوم هو: ماذا يعني هذا الاعتراض في الميدان؟ وهل يملك القدرة فعلاً على تعطيل عمليات التنقيب المرتقبة في المياه اللبنانية؟
منذ سنوات، تشكل النزاعات الحدودية "الخطر رقم واحد" بالنسبة إلى شركات النفط الكبرى. فهذه الشركات لا تخشى التكنولوجيا ولا التمويل، بل المخاطر الجيوسياسية غير القابلة للسيطرة، والتي قد توقف العمليات بل وتؤدي في بعض الحالات إلى مواجهات بحرية كما حصل مراراً بين تركيا وقبرص. لذلك تعتمد الشركات غالباً ما يعرف بـ"الاستثمار المحدود" في المناطق المتوترة: تضع حداً أدنى من الأموال للحفر والاستكشاف، وتحتفظ بالحقوق في محافظها من دون الانتقال إلى مرحلة التطوير المكلف، بانتظار نضوج الظروف السياسية.
هذا الواقع ينسحب أيضاً على لبنان، حيث لا يوجد حتى اليوم حقل تجاري مثبت، ما يعني أن أي عملية تنقيب مقبلة تحتاج إلى استثمارات أولية ضخمة وسط بيئة سياسية إقليمية غير مستقرة. وبالتالي، فإن ترسيم الحدود يوفر الشرط القانوني، لكنه لا يكفي وحده لضمان دخول الشركات في مرحلة الإنتاج. فالتنفيذ يحتاج إلى ضمانات سياسية وملاحق فنية ولجان مشتركة وتطمينات من الأطراف الإقليمية، على رأسها قبرص والاتحاد الأوروبي، وربما أيضاً من تركيا نفسها.
في هذا السياق، يُنظر إلى الاعتراض التركي على الاتفاق اللبناني-القبرصي بصفته ورقة سياسية أكثر منه قدرة تعطيلية. فأنقرة لا تملك صفة قانونية للاعتراض على اتفاق لا يشمل مياهها المباشرة، والبلوكات اللبنانية تقع خارج مناطق النزاع التي طالما تحدّثت عنها مع نيقوسيا وأثينا. لكنّ تركيا تجد في هذا التوقيت فرصة لتذكير الجميع بأنها لاعب لا يمكن تجاهله في شرق المتوسط، وأن أي ترتيبات لا تأخذ مصالحها في الاعتبار ستقابل بالتصعيد الإعلامي والديبلوماسي.
ورغم الخطاب التركي الحاد، تشير مصادر سياسية متابعة إلى أن الاعتراض "لن يكفي لإلغاء الاتفاق أو منع تنفيذه"، خصوصاً إذا توفرت حماية سياسية وقانونية من المجتمع الدولي ومن الشركات الدولية الكبرى العاملة في المنطقة. فالشركات الغربية، التي واجهت سابقاً ضغوطاً تركية في قبرص، تعي جيداً حدود القدرة التركية، وتعمل أساساً ضمن مناطق لا تصل إليها أنقرة عسكرياً أو قانونياً.
مع ذلك، لا يقلّل هذا الواقع من أهمية المتغيّر التركي في لعبة الغاز. فأنقرة، التي تتحدث اليوم عن "استعدادها للتعاون مع لبنان في المجالات البحرية"، ترسل في المقابل إشارة مزدوجة: اعتراض من جهة، واستعداد لفتح قنوات الحوار من جهة أخرى. وهذا الباب، إذا حَسُنَت إدارته، قد يتحول إلى مصلحة لبنانية، خصوصاً في ظل الحاجة إلى تفكيك أي توترات محتملة قد تؤخّر مسار الاستثمار في قطاع الطاقة الناشئ.
في الخلاصة، يبدو الامتعاض التركي أشبه برسالة سياسية أكثر منه تهديداً فعلياً. فالاتفاق اللبناني-القبرصي متين من الناحية القانونية، والاعتراض التركي لا قدرة له على تعطيل التنقيب ما دامت الشركات الدولية ماضية في التزاماتها وما دام المجتمع الدولي يمنح الاتفاق غطاءه. غير أنّ لبنان، في المقابل، يحتاج إلى إدارة ذكيّة لهذا الملف، تُكمل الترسيم القانوني بضمانات سياسية واستثمارية، كي لا يجد نفسه أمام مسار مُعلّق بانتظار ظروف إقليمية لا يملك التحكم بها.