المصدر: الوكالة المركزية
الكاتب: يولا هاشم
الخميس 13 تشرين الثاني 2025 13:19:20
تشكل زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان حدثًا يتجاوز الطابع البروتوكولي إلى بُعدٍ إنسانيّ وأخلاقيّ وروحيّ عميق. فلبنان، الذي كان وما يزال نقطة التقاء حضارات وثقافات ورسالات، يجد في هذه الزيارة فرصة لإعادة تجديد معنى "لبنان الرسالة" في لحظة يمرّ فيها بتحديات بنيوية على مستوى الدولة والهوية والدور. إن حضور الكرسي الرسولي في لبنان ليس زيارة رمزية فحسب، بل هو استعادة لمسار تاريخي بين الفاتيكان ولبنان، حيث يلتقي الشرق بروحانيته العميقة مع الحكمة الأخلاقية الكاثوليكية التي لطالما دافعت عن الإنسان وكرامته وحقوقه. إن الرسائل التي يحملها البابا لاوون الرابع عشر تمتد من تثبيت قيم العدالة والحرية والسلام، إلى إعادة تفعيل الفضاء الأخلاقي في الحياة العامة، وبناء ثقافة حوارية جامعة تتجاوز الاصطفافات، وتعزز المواطنة الحاضنة للتعددية. من هنا، تأتي الزيارة كمساحةٍ لإحياء الذاكرة الوطنية الإيجابية، وتصويب البوصلة نحو دولة عادلة وعاقلة تستند إلى دستورها، وشراكتها، والتزامها العميق بالعيش المشترك. وفي هذا السياق، تنفتح الزيارة على أفق يؤكد أن خلاص لبنان لا يكون إلا عبر منظومة قيم تتقاطع مع جوهر الرسالة المسيحية–الإنسانية في احترام الإنسان، وإعادة بناء الدولة، وصون السيادة، وتحقيق الإصلاح.
يقول المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني الدكتور زياد الصّائغ: "تمثّل الزيارة بابًا واسعًا لاستعادة الروح اللبنانية الأصيلة التي قاومت انهيارات السياسة والاقتصاد بالمعنى الروحي العميق للرجاء. فالبعد الروحي في زيارة البابا لاوون الرابع عشر لا ينفصل عن تاريخ لبنان بوصفه مساحة تُلاقي فيها الأديان والثقافات، بل يُعيد التأكيد على ضرورة بناء أخلاق عامة تتجاوز المعايير الطائفية والمصلحية الضيقة. الروحانية هنا ليست هروبًا من الواقع، بل دعوة للارتقاء به، وتحويل الألم إلى إمكانية، والسقوط إلى نقطة بداية جديدة نحو معنى الدولة العادلة." يضيف الصَّائغ: "في هذه الرسائل الروحية، تبرز قيم الغفران، والاحترام، والعدالة، والإنصات المتبادل، كمرتكزات تعيد تشكيل الحياة العامة في لبنان. فالزيارة تأتي لتذكّر أن الكرامة الإنسانية ليست شعارًا بل فعل مواجهة مستمرة ضد كل أشكال الإقصاء والعنف والفساد والظلم. ومن خلال حضور البابا، تتجدد دعوة روحيَّة لبناء مجتمع ينهض من هشاشته، يحرّر الدين من توظيفه السياسي، ويستعيد معه دوره الأخلاقي في تعزيز الإنسانية. كذلك تحمل الرسائل الروحية بُعدًا إصلاحيًا يبدأ من الإنسان الفرد ويصل إلى البنية الوطنية، مؤكدة أن الروحانية الحقة هي التي تتجسد في العدالة الاجتماعية، وفي بناء سلام قائم على الحقيقة والعدل، وفي تكريس قيم الرجاء رغم عمق الانهيار."
ويستطرد الصّائغ حول الرسائل الوطنية:" تحمل الزيارة بُعدًا وطنيًا يعيد التأكيد على أن الدولة اللبنانية بحاجة إلى إعادة تأسيس على أسس السيادة الفعلية، والحوكمة الرشيدة، واحترام الدستور، وتفعيل مؤسساتها بعيدًا من الهيمنة والتعطيل. فالبابا لاوون الرابع عشر يأتي إلى لبنان في لحظة دقيقة تشهد تفككًا في مؤسسات الدولة، وتراجعًا في الثقة العامة، وارتِباكًا في مسار إنهاء اللّادولة رغم أنَّ بوادر إيجابيَّة تتبدَّى في هذا الاتّجاه. من هنا، فإن الرسالة الوطنية للزيارة تتمثل في إعادة الاعتبار لفكرة دولة المواطنة القادرة العادلة، التي تشكل إطارًا حاميًا للمواطن، ومظلة جامعة تضمن الحقوق والواجبات بعيدًا عن منطق الامتيازات الفئوية. تدفع الزيارة نحو إعادة إنتاج العقد الاجتماعي على قاعدة احتِضان التنوّع بالمواطنة، وإحياء الميثاق الوطني والعيش المشترك بمعناه الإيجابي، لا بوصفه آلية تعطيل بل إطارًا للانتظام العام. كما تضع الزيارة المسؤولين أمام واجبهم الأخلاقي في الالتزام بإصلاحات بنيويَّة تعيد للدولة هيبتها، وللمواطن ثقته، وللبنان دوره العربي والدولي. فالكرسي الرسولي لطالما أكد أن لبنان ليس مجرد جغرافيا، بل رسالة تقوم على الحرية، التنوّع، والكرامة الإنسانية، وهو ما يحتم حمايته من الانهيار ومن مشاريع الهيمنة."
ويختم الصّائغ بالقول إنَّ: "مواكبة هذه الزيارة يجب أن تتم بنَفَسٍ إصلاحي وطني ودينيّ حِواريّ يعيد للبنان رسالته وهويته الحضارية. فالمطلوب ليس الاحتفاء البروتوكولي، بل تحويل الزيارة إلى لحظة تأسيسية لنهضة وطنية شاملة، تتكامل فيها إصلاحات الدولة مع نهضة المجتمع وروحانيته الأصيلة. إن استعادة فاعلية لبنان في العالم العربي والمجتمع الدولي تمرّ عبر حماية كرامة الإنسان، وإحياء مشروع الدولة السيّدة القادرة، وترسيخ ثقافة المواطنة الجامعة. وبهذا المعنى، تصبح الزيارة فرصة لإطلاق مسار يُعيد للبنان مكانته كنموذج في احترام الإنسان وحريته وكرامته."