التحويلات المالية بعد الأزمة: المساءلة الشاملة لا تزال غائبة

أحدث قرار النيابة العامة المالية في 14 آب صدمة كبرى في لبنان: القاضي ماهر شعيتو أصدر قراراً قضى بإعادة الأموال التي حُوِّلت إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019، أي منذ بدء الانهيار المالي. خطوة وُصفت بـ«التاريخية» بعد سنوات من الجمود، ومنحت بارقة أمل للمودعين والرأي العام الساعي إلى إنهاء الإفلات من العقاب الذي تمتعت به النخب السياسية والمالية طوال أكثر من خمس سنوات.

لكن سرعان ما تبيّن أنّ القرار محدود النطاق، إذ يطال فقط بعض الملفات القديمة العالقة في أدراج النيابة العامة، والتي أعاد شعيتو فتحها التزامًا بتعهده أمام السلطات العليا بعدم دفن القضايا كما كان يحصل سابقًا. وعليه، فإنّ المعنيين بالتحويلات المشمولة بهذه الملفات وحدهم ملزمون بإعادة الأموال خلال شهرين، فيما اللائحة التي سُلّمت إلى المصارف لا تمثل سوى جزء يسير من المستفيدين من تحويلات الأزمة.

القرار يثير أسئلة أساسية: لماذا هذه التحويلات تحديدًا؟ ما آلية اختيارها؟ وهل ستتبعها لوائح أوسع قد تطال أسماء نافذة؟ الأهم: هل يمكن الذهاب فعلًا نحو محاسبة شاملة للقطاع المصرفي، فيما جريمة حجز الودائع غير المشروعة ما زالت بلا معالجة منذ ست سنوات تقريبًا؟
القانون الأخير لمعالجة أوضاع المصارف («قانون إعادة الهيكلة») لم يقدّم سوى بداية هشة، وهو بانتظار قانون مكمّل حول إعادة الودائع، عُرف طويلاً باسم «قانون الفجوة المالية».

مسؤولية المصارف موضع جدل

معلومات من مصرف لبنان وتصريحات حاكمه كريم سعيد أوضحت أنّ المصرف المركزي يعوّل على سيولة تقدَّر بنحو 50 مليار دولار بعد تطبيق «حسومات» على بعض الودائع المصنّفة «غير شرعية» أو «ربوية». الخطة تقضي بتحويل هذه الأصول تدريجيًا إلى سيولة على مدى 15 عامًا.
لكن السؤال الأهم: ماذا عن المصارف التجارية؟ هل ستُعفى من المسؤولية حتى لو ثبت ارتكابها مخالفات؟ خبراء كثر يشككون، إذ إن قانون إعادة الهيكلة لا يتضمن أي بند واضح للمساءلة سوى بحق المصارف المقرر تصفيتها. أما تلك التي يُعاد رسملتها فقد تُعفى فعليًا من أي محاسبة.

غياب المحاسبة… استمرار «المافيا»

الخبير الاقتصادي روي بدارو قال لـ«لوريان لوجور»: «من دون محاسبة حقيقية، ستبقى المافيا المالية مسيطرة». وذكّر بأنّ المصارف اعتمدت طوال الأزمة على حيل لتمديد سداد الودائع، ما سمح للمودعين باسترجاع ربع أموالهم فقط في أحسن الأحوال، فيما يجري تحميل الكلفة لاحقًا على الاقتصاد المنتج عبر ضرائب جديدة بدل محاسبة المسؤولين الفعليين.
المحامي كريم ضاهر حذّر بدوره من تحويل بعض إجراءات «المساءلة» إلى تسويات مبنية على منطق «العفو مقابل النسيان». وأشار إلى أنّ الهيئة العليا للمصارف، ذات الصلاحيات شبه المطلقة، تفتقر إلى الاستقلالية الكافية، ما يفتح الباب أمام تجاوزات خطيرة.
من جهته، رأى رئيس مجلس إدارة «آي أند سي بنك» جان رياشي أنّ تركيز المصارف ودائعها لدى مصرف لبنان كان «خطأ جسيماً»، حتى لو جرى برعاية سياسة عامة. واعتبر أن الأرباح المحققة من «الهندسات المالية» غير مشروعة، وأن المكافآت والأرباح التي حُوِّلت إلى الخارج يجب استردادها. لكنه أسف لأن القانون الجديد لا ينص على ملاحقة المصارف «القابلة للإنقاذ» طالما أعيد رسملتها.

ثقة مفقودة
الوزير السابق عادل أفيوني شدّد على أنّ أي إصلاح جدي يجب أن يميّز بين قلة من المصرفيين حاولوا حماية المودعين، وأغلبية أخرى أساءت استخدام ثقتهم. وحذّر: «لا عودة للثقة ولا استثمارات من دون مساءلة حقيقية».
الخبير توفيق كسبار، قدّر التحويلات المشبوهة إلى الخارج بين 8 و12 مليار دولار، إضافة إلى عشرات المليارات المهدورة عبر القروض المدعومة والـ«لولار» والهندسات المالية ومنصة «صيرفة». وبحسبه، يصل المجموع إلى 85 مليار دولار مفقودة، ما يستوجب توجيه اتهامات واضحة للمصارف بالاحتيال أو على الأقل بالإفلاس نتيجة الإهمال.

قرار النيابة العامة المالية خطوة رمزية مهمة، لكنه يظل محدودًا إذا لم يترافق مع تحقيقات أوسع تكشف حقيقة ما جرى، وتضع المسؤوليات حيث يجب. فاللبنانيون الذين فقدوا مدخراتهم لا ينتظرون «قوائم جزئية»، بل مسارًا شاملاً يعيد الحقوق ويضمن المحاسبة.