"التفرغ" وكلية الآداب مثالاً: الإصلاح سهل لكن الطوائف شرسة

يبدو أن هناك صراعاً لم يظهر إلى العلن بين رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران، ووزير التربية عباس الحلبي، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، على هامش ملف التفرغ. وسبب هذا الخلاف هو معيار التوازن الطائفي الذي يقتضي خفض عدد المتعاقدين المراد تفريغهم إلى ما لا يزيد عن ألف ومئة متعاقد. ففي حال رفع العدد إلى 1250 متعاقداً لإرضاء الطائفة الشيعية (الهدف تخفيف الاحتقان بين حركة أمل وحزب الله، وعدم إحداث غضب من الأساتذة الذين ستشطب أسماؤهم تجاه الثنائي الشيعي)، سيكون الخلل فاضحاً، سواء بين المسلمين والمسيحيين أو بين السنّة والشيعة. فما هو حاصل اليوم، أنه بعد أكثر من عشر سنوات على "حشو" الجامعة اللبنانية بمتعاقدين، ولا سيما في السنوات الأربع الأخيرة من دون أي إعلان شغور أو حاجة، رفع رئيس الجامعة ملف تفرغ ضخم لا حاجة للجامعة له، ولا قدرة لمالية الدولة على استيعابه. وعندما جاء دور "تشحيل" الملف في مكتب وزير التربية، نشبت الصراعات الحزبية والطائفية عليه. وبات بدران أمام حدي السيف: فهو مقتنع أن التفرغ حاجة للجامعة، فيما الضغط لرفع العدد وزيادة الحصة الشيعية تؤدي إلى "تطييره".

تم تجاهل الدراسة
وفق مصادر "المدن"، سبق واطلع الوزير الحلبي على ما عرضته "المدن" من إشكاليات وفضائح في كلية الآداب وتوقف عند هذه الكلية. لكن ثمة دراسة كافية ووافية عن هذه الكلية سلمت لرئيس الجامعة ونامت في الدرج، كان من شأنها إجراء إصلاحات كبيرة في هذه الكلية، في حال كانت هناك نوايا للإصلاح.

في هذه الكلية التي رفع رئيس الجامعة ملف تفرغها بـ369 متعاقداً (موزعون على 120 متعاقداً للطوائف المسيحية و249 للطوائف المسلمة، منهم 135 شيعياً و107 سنّة وسبعة دروز)، ثمة حاجة ليس لتفريغ هذا الكم الهائل، بل لإلغاء عشرات العقود. وما ينطبق على الآداب ينطبق على كلية الحقوق والعلوم السياسية، وعلى كلية العلوم الاجتماعية وعلى كلية العلوم، رغم اختلاف الاختصاصات والتخصصات في مرحلة الدراسات العليا. فالمشكلة هي تفريع الكليات وتفريع الاختصاصات وفتح مسارات، ليس بناء على حاجة السوق بل لإرضاء الطوائف وحشو الجامعة بمتعاقدين، ينتظرون دورهم للتفرغ.

الدراسة التفصيلية التي اطلعت عليها "المدن" في كلية الآداب لا تهدف إلى "تطيير" عقود أساتذة جرى التعاقد معهم من قبل آخر عميدين أتيا قبل العميدة هبة شندب، التي أقالها بدران مؤخراً، بل دمج طلاب مسارات الماجستير بين الفروع. وهذا الدمج قد يؤدي حكماً إما إلى إلغاء عقود أو عدم التعاقد في السنوات المقبلة. وهذا ينعكس على ملف التفرغ الحالي وكيفية تفريغ متعاقدين وخفض عددهم.

مسارات بلا طلاب
ما حصل في الجامعة في السنوات السابقة، أنه تم تفريخ مسارات في الماجستير بطالب أو طالبين. ولا يخلو الأمر من إقدام أساتذة أو مدراء في مختلف الكليات على تسجيل الطالب على نفقتهم الخاصة للحفاظ على الأنصبة أو على العقود.

يتجلى تفريخ المسارات في كلية الآداب، في الفترة التي سبقت قدوم شندب إلى العمادة. ففي الكلية يوجد 46 مساراً للماجستير وتسعة مسارات للدبلوم، بمعدل يتراوح بين طالب واحد وسبعة طلاب كحد أقصى في المسار.

المشكلة ليست في أن هذه المسارات هي بمثابة تفريع للاختصاص بمعزل عن حاجة السوق، وإنما، وبسبب وجود فروع في الكلية، مثل غيرها (لإرضاء الطوائف)، بات المسار نفسه بمثابة تفريع المفرع. ووصل الأمر إلى أنه يوجد مسار بطالب في هذا الفرع وطالب في فرع آخر وهكذا دواليك. والنتيجة هي تخصيص الجامعة عشرة أساتذة لطالب واحد، في هذا الفرع أو ذاك. أي عوضاً عن دمج الطلاب وتخفيض أنصبة التعاقد جرى حشو الكلية بمتعاقدين. والسخرية هنا أنه كان بإمكان الجامعة تخصيص منحة دراسية لهذا الطالب في جامعة خاصة، وعدم تكبد أموال طائلة على أنصبة المتعاقدين.

دمج الطلاب
وبعيداً من إشكالية هذه الكلية على مستوى الإجازة الجامعية (على سبيل المثال، في إجازة اللغة الفرنسية في الفرع الأول والثاني والخامس لا يتجاوز عدد الطلاب المسجلين أصابع اليد الواحدة) ثمة ضرورة لدمج الطلاب في المسارات عينها لمرحلة الدراسات العليا، وإقفال مسارات أظهرت الدراسة أن عددهم يقل تدريجياً عاماً بعد عام.

قد يصعب تحقيق الدمج في الإجازة، لأن الطالب الجديد يخاف من الاختلاط مع أبناء الطوائف الأخرى (كما يجري تبرير الأمر بين أهل الجامعة)، لكن ما هو العائق أمام طالب الدراسات العليا من الدمج؟ فهذا الطالب يفترض أنه بات منفتحاً على العلم وعلى تقبل الآخر وتقبل فكرة التضحية لاستكمال دراسته العليا والذهاب من الفنار إلى الأونيسكو أو من طرابلس إلى الفنار، والعكس صحيح.

الدراسة تقوم على عدة محاور. الأول هو دمج الطلاب في الفرع الذي يوجد فيه العدد الأكبر من الطلاب المسجلين. والسؤال العلمي والعملي هنا: لماذا لا ينقل أو يدمج طلاب دبلوم اللغة العربية وآدابها (4 طلاب) من الفرع الثاني إلى الفرع الأول (7 طلاب)، والماستر البحثي في الفنون والأثار الكلاسيكية (طالب واحد) من الفرع الثاني إلى الفرع الأول (4 طلاب)، أو الماستر البحثي في اللغة الفرنسية وآدابها (الألسنية العامة: طالب واحد) مع طلاب الفرع الأول (6 طلاب)؟

إقفال مسارات
يوجد تخصصات بعدد طلاب قليل في فرع واحد. لذا تقوم الدراسة على ضرورة إلغاء مسارات يوجد فيها بين طالب وأربعة أو خمسة طلاب. والسؤال هنا: لماذا لا يتم إلغاء الماستر البحثي في اللغة الفرنسية وآدابها في الفرع الثاني (3 طلاب)، والماستر المهني في علم النفس المدرسي التطبيقي في الفرع الثاني ( طالبان)، ودبلوم الجغرافيا-الانكليزي، في الفرع الأول (طالب واحد)، ودبلوم الجغرافيا-الفرنسي، في الفرع الأول (طالبان)، ودبلوم التاريخ في الفرع الأول (طالب واحد)، والماستر البحثي في التاريخ (حضارات قديمة) في الفرع الثالث ( طالب واحد)، والماستر البحثي في الفلسفة العامة في الفرع الرابع (4 طلاب)، والماستر المهني في التاريخ في الفرع الخامس (طالبان)، والماستر المهني في الفنون والآثار في الفرع الخامس (4 طلاب).

ذريعة الخوف من الآخر
الذريعة التي يسوقها البعض لعدم الدمج هي الإشكالية السياسية والطائفية والخوف من الآخر. لكن ما حصل أنه بذريعة الخوف من الآخر تم تبرير فتح مسارات ماستر لطالب واحد وتخصيص عشرة أساتذة له.

ذريعة الخوف من الآخر تسقط أمام فكرة الذهاب إلى إلغاء المسار من أساسه. فالسؤال هو: لماذا لم يقفل المسار طالما لا يوجد فيه إلا طالب؟ في الحقيقة، لا يوجد في أي بلد بالعالم هذا الترف اللبناني لا يمكن فيه نقل طالب من منطقة إلى أخرى ليست بعيدة لاستكمال تحصيله العلمي في مرحلة الدراسات العليا. هذا فيما دمج الطلاب أو إقفال المسار حاجة وضرورة وواجب مالي قبل الأخلاقي في بلد مفلس مثل لبنان.