المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الجمعة 15 آب 2025 14:47:00
في بيروت، الدراجة النارية ليست مجرد وسيلة نقل. إنها مسرح صغير على عجلتين، تتغير عليه الأدوار بتغير الزمن: من الاستعراض الرياضي إلى الشغب الحزبي، من الديليفري إلى الاغتيالات.
بدايتها كانت احتفالاً حضارياً: عام 1939، شهدت العاصمة أول سباق للدراجات النارية، لمسافة 16 كيلومتراً، تحت اسم "جائزة بيروت الكبرى". كان عرضاً جديداً لسكان المدينة، فرقة "بيبي ومورس" البريطانية قدمت مهاراتها للمرة الأولى، وسط تصفيق المتفرجين ودهشتهم. الجائزة التي قدمت بلغت ألف فرنك فرنسي: 500 للأول، 300 للثاني، و200 للثالث.
مع التسعينيات، بدأ المشهد يتغيّر. غزت الصناعات اليابانية والكورية والماليزية الأسواق، وانخفضت الأسعار، فأصبحت الدراجة متاحة للطبقات الدنيا والفقيرة. ازدحام السير منح الدراجة وظيفة جديدة: الهروب من السيارات العالقة، ومعها ولدت أيضاً مهنة الدليفري، التي قامت على سرعتها وقدرتها على اختراق الزحام. هنا، بدأت الدراجة النارية تأخذ بعداً اقتصادياً واجتماعياً جديداً، لتصبح جزءاً من حياة المدينة.
دراجة واحدة… ثقافات متعددة
الأزمات الاقتصادية أعطت الدراجة دفعتها الكبرى. ذوو الدخل المحدود، العاطلون عن العمل، الطلاب، وجدوا فيها وسيلة عمل أو تنقّل، وأحياناً طوق نجاة. حتى النساء، اللواتي كانت الواحدة منهن تُصنّف "فلتانة" إذا ركبت خلف شاب، صرن يقدنها بأنفسهن، من دون وصمة، بعد أن صار امتلاك سيارة ترفاً. الدراجة أصبحت خياراً "عقلانياً"، بل وحتى تحررياً.
لكن هذه الآلة ليست عالماً واحداً، بل طبقات ومراتب، لكل طبقة أسلوبها وثقافتها ودورها في مسرح الشارع. في الأحياء الشعبية، تسود الدراجات الصغيرة، يقودها "فتيان الدراجات" وقبضايات الشوارع وزعرانها، وهم غالباً بلا وظائف أو شهادات علمية، أبناء الأرصفة المتشرّبون أساليب التشبيح. هنا، تتحول الدراجة إلى امتداد للذات، أداة للاستعراض والهيمنة، وصوت إضافي لفرض الحضور. هذه الكثرة لم تذهب سدى: "الثنائي" عرف كيف يضمها إلى ترسانته الاجتماعية كجيش له، ذراع شعبية جاهزة للاستدعاء، تتحرك بسرعة وتعرف الأزقة.
في أحيان كثيرة، تتحوّل الدراجة إلى جزء من منظومة عمل متكاملة: جولات استطلاع، رسائل تُسلَّم، ومراسلون يربطون النقاط في شبكة غير مرئية. أداة اتصال لا تحتاج إلى بريد أو هاتف، وأحيانًا لا حاجة إلى تسجيل أو لوحة. كثير من الأحزاب سبقت في هذا الاستخدام: التسلل إلى مناطق الخصوم، المراقبة الصامتة، أو رسم خرائط النفوذ عبر الحدود الحزبية. تصبح الدراجة عيناً سريعة الحركة، وأذنًا تلتقط الإشارات، ودورية خفيفة الظل أحياناً، أو صاخبة بهديرها حين تدعو الحاجة.
بين هذين العالمين، تنبض ثقافة الجولات بالدراجات الضخمة (هارلي ديفيدسون) أو الصغيرة الأنيقة (فاسبا): هواة القيادة من رجال ونساء، يلتقون نهار الأحد، يتبادلون التحيات كما لو أنهم قبيلة متنقلة أو عائلة واسعة. تتعالى الضحكات فوق هدير المحركات، تنطلق القوافل بانتظام مدروس، خوذاتهم تلمع تحت الشمس، وأصوات محركاتهم تتحول إلى موسيقى متنقلة.
بالنسبة إليهم، الدراجة النارية ليست وسيلة هروب ولا أداة مواجهة، بل بطاقة عبور نحو عالم موازٍ، مؤقت لكنه شديد الإغراء. هي أسلوب حياة فيه جرعة محسوبة من المغامرة، وانعتاق قصير من ضجيج الأحياء وصخب السلطة الرمزية. في تلك الجولات، تصبح الطريق نفسه مسرحًا، والمدينة خلفهم ليست سوى خلفية باهتة لقصص صغيرة تولد وتنتهي على الإسفلت، حيث الخوذة تاج، والمحرك قلب، والرحلة بيان حرية لا يحتاج إلى خطبة ولا لافتة.
بين الحرية والهيمنة
من احتفال حضاري وأداة للحرية والمغامرة، تحوّلت في أيامنا إلى وسيلة للهيمنة والسيطرة الرمزية. من الشغب إلى الاستعراض العنيف، ومن الألعاب إلى العمليات العسكرية، فرضت الدراجة النارية حضورها في المدينة كما لم تفعل وسيلة نقل أخرى. رخيصة الثمن، سريعة، وخفيفة، قادرة على المناورة في الأزقة الضيقة، تجعلها مثالية لمجالات متعددة: من تفريق التظاهرات، إلى تنظيم مواكب الدعم لـ"قضايا إقليمية"، أو إيصال رسائل سياسية مشاغبة ومباشرة إلى قلب الشارع.
في بعض المناسبات والتحركات، أو أثناء المواجهات، تكاد هذه الآلة الصغيرة تكون لا غنى عنها، جزءاً من الطقس نفسه. الدراجات حاضرة في كل المناسبات، عند إعلان وقف إطلاق النار، وحتى عند الدخول الأول إلى الجنوب، حيث حملت في صناديق السيارات لتخرج في قوافل ضخمة، لدعم غزة أو للتعبير الفج كتحدٍ وإبراز للقوة واستعداد للمجابهة، آخرها ما يتعلق برفض قرار حصرية السلاح.
التاريخ يثبت هذا الدور: في 7 أيار عام 2008، حين اجتاح حزب الله وحلفاؤه العاصمة، بدأ الأمر بمواكب الدراجات التي اجتاحت الأزقة مطلقة الرصاص والشعارات، لتؤكد أن الدراجة أداة للهيمنة الرمزية والميدانية معاً. ومشهد مماثل تكرر في أحداث 17 تشرين 2019، عندما تحولت مواكب الدراجات التابعة لحزب الله وحركة أمل إلى مشهد يومي في بيروت: رايات ترفرف، هدير المحركات يخترق الأحياء، وأحياناً تُحمل أسلحة نارية بين الركاب. حتى الفيديو الدعائي لمنشأة "عماد 4" تحت الأرض يظهر مقاتلاً على دراجة، رمزاً لفلسفة كاملة من السلطة والحضور.
لكن استخدام الدراجة النارية لم يقتصر على السياسة والحروب. في 8 حزيران 1999، قُتل أربعة قضاة داخل قاعة محكمة جنايات لبنان في مدينة صيدا، بعد أن أطلق المسلّحون النار بغزارة من نافذتين مطلّتين على موقف السيارات خلف المبنى، وفروا هروباً على دراجاتهم النارية نحو مخيم عين الحلوة، ما أدى إلى استشهاد القضاة وإصابة آخرين. وفي 10 كانون الأول 2022، تحوّل احتفال بفوز المغرب في ساحة ساسين بالأشرفية إلى اشتباك، بعد دخول عدد كبير من الأشخاص على متن الدراجات النارية حاملين أعلام المغرب وفلسطين وسوريا وإطلاقهم عبارات استفزازية، ما أثار شباب المنطقة ونتج عنه توتر. وفي 14 من الشهر نفسه، سار فجراً عشرات الشبان من "جنود الرب" بدراجاتهم، مرتدين قمصاناً سوداء، مستعرضين القوة والترهيب.
الدراجة النارية، إذن، ليست مجرد آلة نقل أو وسيلة ترفيه. بين الاستعراض والشغب، بين الاحتفال والحرب، تظل آداة مزدوجة تعكس لبنان بكل تناقضاته: حرية، صخب، حذر، وشغف بالهيمنة على المكان والزمن في آن واحد. تصبح رمزاً للسلطة، رسالة، وأحياناً أداة إرهاب مقنّع، تلخص في مسارها القصير والمعقّد واقعاً اجتماعياً وسياسياً أكثر تعقيداً.