القرم يُقزّم "الديوان" ويلجأ إلى مجلس الوزراء.. إمّا التحالف الفائز في البريد وإمّا الخراب

رفض ديوان المحاسبة نتائج تلزيم قطاع البريد لتحالف شركتيْ ميريت إنفست ش. م. ل. اللبنانية وColis Privé France في قراريْن متلاحقيْن صدرا عنه في 14 أيلول و 9 تشرين الأول الجاري، حيث جاء القرار التأكيدي الثاني ليُحبط طلب إعادة النظر الذي قدّمه وزير الإتصالات جوني القرم بالقرار الأوّل. إلا أنّ الأخير لا يزال متمسكاً بتلزيم الخدمة لهذا التحالف، وهو مصر على إقناع أي طرف معني بـ»وجهة نظره» التي يعتبرها صائبة، وبالتالي يستعد لتقديم مرافعته أمام مجلس الوزراء الذي ينعقد اليوم، سعياً للبت بطلبه «النظر في الموافقة على توقيع العقد مع التحالف» على رغم الملاحظات التي سجّلتها الجهات الرقابية وأثقلت الملف. فيما تقول المعلومات أنّ قرم «سيفضح الكثير من المعطيات والأسماء التي بين يديه»، والتي تفسّر برأيه تأخير التلزيم.

يشكّل إقحام مجلس الوزراء في دفاع اعتبر «مستميتاً» عن صفقة رُفض العارض الفائز فيها من قبل السلطات الرقابية ثلاث مرات في صفقتين متتاليتين، سابقة تمهّد لمجابهة كل قرار يصدر عنها، بقرار حكومي، وبالتالي تفتح شهية الوزراء على نقض قرارات الديوان، كلما جاءت قراراته التي تبنى عادة على دراسة للوقائع والمستندات، مخالفة لرغباتهم. وما يثير الدهشة، وفقاً لمصادر متابعة لهذا الملف، أن يتجرأ الوزير «ببقايا الصلاحيات» التي يملكها من خلال حكومة تصريف الأعمال، على وضع نفسه في مواجهة سلطة قانونية رقابية بكامل صلاحيتها، محاولاً إستدراج زملائه معه إلى مثل هذه السقطة.

فمن أين يأتي القرم بهذه الجرأة؟

يصر وزير الاتصالات على أنّ الخلاف مع ديوان المحاسبة بموضوع تلزيم البريد هو في كيفية «تقدير الأمور»، مؤكداً أنه لم يرتكب أي مخالفة بإنجاز المزايدة. وفي معرض دفاعه عن الصفقة يقول: «كلنا تحت سقف القانون، ولكن حتى بالقانون هناك مرجع أخير، وبهذه الحالة المرجع هو مجلس الوزراء وسأنصاع لقراره أياً كان، ولكن يهمني أن تكون كل الأمور بالعلن».

صورة سوداوية

يرسم القرم في حديثه لـ»نداء الوطن» صورة سوداوية حول مستقبل القطاع إذا لم يوقع عقده مع التحالف المذكور. فيعتبر أنّ تداعيات إلغاء نتائج المزايدة الأخيرة كبيرة، وتضر بمصلحة البلد، وبمستقبل القطاع. كما أنّ هناك 700 موظف مصيرهم متعلق بهذا القطاع، فنحن لم نجدد لليبان بوست، وهي تمارس مهماتها دون مسوّغ شرعي، فيما القطاع يتلاشى، خصوصاً أن ليبان بوست خسرت عقودها حتى مع الدولة ومع المصارف والقطاع الخاص، ونحتاج إلى بديل، وهذا البديل كلما تأخرنا كلما اختفى». ليخلص إلى أنه «إذا كنت أنا اليوم قادراً على تلزيم القطاع لشركة، ربما غداً لن نتمكن من ذلك». ويعتبر بالتالي أننا «أمام فرصة، ستوفر لخزينة الدولة مدخولاً بقيمة خمسة ملايين دولار بالسنة فور توقيع العقد، وهذا خيار قد لا يكون متوفراً غداً».

كلام القرم يترك إنطباعاً بأنّ التحالف الفائز هو خشبة خلاص القطاع، وبالتالي إمّا ترسية العقد عليه أو الخراب. ويبدو مريباً عدم تشكيكه ولو للحظة بكونه قد أخطأ، ولو بقبوله عرضاً وحيداً، تبيّن لديوان المحاسبة أنّ دفتر الشروط قد فصّل على قياسه.

التعديلات وهيئة الشراء العام

بالمقابل وبعدما أسقطت هيئة الشراء العام نتيجة فوز التحالف المؤقت بالمزايدة الثانية، بسبب عدم مطابقة مؤهلات العارض مع متطلبات دفتر الشروط وبسبب ما اكتشف من هدر للمال العام، يصر القرم على أنّ تعديلات دفتر الشروط الأخير تمّت بالتنسيق التام مع الهيئة وبحضور خبير فرنسي عيّن من قبلها. ويقول بأن «الهيئة أعطتني الموافقة بالنسبة لتعديل دفتر الشروط، وموافقة على إطلاق المزايدة، ومن ثم وافقت على النتيجة».

لكن خلاصة الوزير تفتقد للدقة، خصوصاً أن تقرير هيئة الشراء العام الذي لم يرفض نتائج المزايدة، إقترن بتحميل الوزارة مسؤولية تجاوزات عديدة إرتكبتها في عملية التلزيم الأخيرة، وقد استند ديوان المحاسبة لهذه الملاحظات في إصدار قراره، وأبرزها ما يتعلق بمخالفة مبدأ العارض الواحد.

مع أنّ القرم يتجنّب الخوض في تفاصيل المرافعة التي سيقدمها أمام مجلس الوزراء، والذي يقول إنّه سيظهر فيها أمام رئيس الديوان محمد بدران إلتزام الوزارة بكل التوصيات التي وضعها ديوان المحاسبة في تقريره الأوّل عن القطاع الذي صدر في سنة 2021، إلا أنّه يؤكد أنّ تعديل دفتر الشروط «جاء متناغماً مع طبيعة الخدمات «العصرية» التي باتت مطلوبة من هذا القطاع، والتي جعلت معظم إيراداته تعتمد بنسبة 90 بالمئة على نقل الطرود، وبالإقتصاد الإلكتروني وفي المستقبل ربما الخدمات المصرفية البريدية، ومن الطبيعي أن نسعى في المزايدة لإستدراج الشركات التي تقدم هذه الخدمات».

ورفض بالمقابل أن يكون ذلك قد فصّل على قياس التحالف الذي يحاول أن ينتقل معه إلى مرحلة توقيع العقد، ذلك لأن قدرة التحالف، كما يقول، «تصل إلى ستين مليون طرد سنوياً، بينما نحن أطلقنا المزايدة للشركات التي تملك قدرة تفوق الـ50 ألف طرد فقط، وكان هدفنا توسيع «البيكار» والسماح لكل الشركات التي تتعاطى بالطرود أن تتقدم للمزايدة، بما فيها DHL, ARAMEX وغيرهما».

إذاً يحاول وزير الإتصالات أن يقول إنّ تعديل دفتر الشروط بني على القاعدة الشعبية القائل: «كما يتطلب السوق سوق»، بينما بناء المؤسسات يحتاج وفقاً لمصادر متابعة لتفكير أعمق إستراتيجياً يحافظ على القطاعات ويسعى لتطويرها. وهذا ما يثير التخوفات من تحوّل خدمة البريد «دكانة» تبحث عن أرباح، ربما يستوفيها المشغّل من خدمات تحويل الأموال المدرجة في دفتر الشروط، وقد تُفتح شهيته لاحقاً على خدمات تؤمن ربحية مشابهة، ويتأمن له إمتياز احتكارها.

بين السيئ والأسوأ

في معرض إجابته على أسئلة «نداء الوطن»، حاول القرم أن يظهّر «الأسوأ» ليبرر ما «صنف» وفقاً لمعايير هيئات الرقابة، بالسيئ. فأشار إلى أنّ حصّة الدولة من مداخيل «ليبان بوست» لا تتخطى حالياً الأربعين ألف دولار، بينما هناك مستثمر سيؤمّن أرباحاً سنوية بقيمة خمسة ملايين دولار، وهي ستدفع فور الإنطلاق بتنفيذ العقد، علماً أن هناك إستثمارات بقيمة 12 مليون دولار تعهّد بها التحالف، وهي ستصبح ملكاً للدولة بعد تسع سنوات. إضافة إلى المداخيل بالدولار التي ستتوفر من استئجار مبنى المطار، وحددت بمليون ومئتي ألف دولار، ليؤكد بأننا «سنعيد النظر بكل الإيجارات ولن يكون هناك أي شيء مجاني».

ولكن ما الذي يجعله مقتنعاً بأنّ مبلغ الخمسة ملايين دولار كاف، طالما أنّه لم يتلق سوى عرض واحد، كما أن المزايدة لم تبن وفقاً لما بيّنه تقرير ديوان المحاسبة على دراسة واقعية للسوق، تحدد من خلالها الحصة العادلة التي يجب أن تستوفيها الدولة من حجم هذا القطاع؟

يعود القرم في إجابته إلى الظرف «غير السوي» الذي يجتازه لبنان حالياً، ليسأل: بأيّ مال ومالية وتمويل أقوم بالدراسات؟ ويصرّ في المقابل على أنّ هناك دراسات إستندت إلى أرقام متوفرة من خلال ليبان بوست، ومن خلال إجتماعات عديدة مع معنيين بقطاع الطرود بالإضافة إلى تعاون من قبل دار الهندسة.

ويكشف في المقابل عن قناعته بعد عام من إطلاق هذه المزايدة أنّ «هذا أفضل الممكن بظل الوضع الذي نمر به. فنحن لسنا ببلد يمر بظروف طبيعية، نظامنا البنكي ليس ممتازاً، وليس هناك ثقة كافية لجذب استثمارات وشركات أجنبية، كما أن الشركات التي قد تتقدم للمزايدة ليس لديها ثقة بقدرتها على سحب أموالها من البلد. لسنا برفاهية، وأنا أتعامل مع الواقع»... ويتناسى الوزير أنّ العقد سيوقع مع مشغّل لم يُقنع الهيئات الرقابية، لمدة تسع سنوات لا يمكن التنبؤ بما ستحمله من متغيرات على صعيد «الظرف».

عواقب عدم الإنصياع

يحاول القرم مجدداً التهويل بعواقب عدم الإنصياع لما يعتبره «أفضل الممكن». فيذكر بعرض قدّم في مجلس الوزراء لتأسيس شركة تؤمن إدارة القطاع محلياً، ومطالبته حينها برأسمال تشغيلي بقيمة خمسة ملايين دولار. وينتقل فوراً لمقارنتها بما سيوفره توقيع عقد الإلتزام من إستثمارات في القطاع، أدرجها التحالف ضمن عرضه، وتبلغ قيمتها 12 مليون دولار، بالإضافة إلى جني الدولة لحصتها من الواردات. لينتهي برزمة أسئلة «من يتحمل مسؤولية السنة التي إستغرقتها المزايدة والتي خسرنا فيها حتى الآن هذه الإستثمارات والمداخيل؟ ومن يتحمل مسؤولية 700 موظف إذا ذهبوا إلى بيوتهم؟ من سيحمل مسؤولية تجديد عقد ليبان بوست إذا إضطررنا لذلك؟ ويقول: «لهذا أنا لا أريد أن أتحمّل ذلك وحدي، فليقل مجلس الوزراء ما يجب فعله وانا سأنصاع لكل ما يقرره».

ما يمكن إستخلاصه من كلام القرم إذاً أنه «ليس مستعداً بعد لإطلاق مزايدة جدية بمعايير واضحة ومدروسة، تأخذ بعين الإعتبار الملاحظات التي وضعتها الهيئات الرقابية، لتستعيد ثقة شركات بريدية عالمية تبدي حماساً للمشاركة بهذه المزايدة، فتؤمن للبنان فرصة تطوير إدارته لهذا القطاع.