الكهرباء بقاعاً: لاعدالة في تطبيق خطة النهوض المستدام بالكهرباء

على مسافة لا تتجاوز البضعة كيلومترات بين بلدتي سعدنايل وجلالا في البقاع الأوسط، تتظهر اللاعدالة المطلقة في بدء تطبيق "الخطة الوطنية للنهوض المستدام بالقطاع الكهربائي"، والتي أقرّت لها الحكومة في الأسبوع الماضي سلفة ‏‏62 مليون دولار لتأمين الطاقة إضافة إلى 54 مليون دولار للصيانة.

جباية متدنية
في الأولى باشر جميع أهالي بلدة سعدنايل ومثلهم 16 بلدة بقاعية أخرى الى جانب مدينة زحلة، بدفع فواتيرهم الأخيرة مع العلاوة التي فرضتها مؤسسة كهرباء لبنان على رسوم التأهيل والاشتراك التي تضاعفت أكثر من 20 مرة. فيما نسبة جباية هذه الفواتير في جلالا متدنية جداً كالعادة. والسبب أن الأولى تخضع لنطاق خدمة شركة كهرباء زحلة التي اعتمدت منذ البداية سياسة قطع الكهرباء عن المتخلفين عن سداد فواتيرهم. فيما الثانية خاضعة لمؤسسة كهرباء لبنان، التي لا تهمل فقط جباية مستحقاتها. وإنما هي لم تنجح منذ سنوات طويلة، وعلى رغم تعدد خطط تأمين الكهرباء وحملات مكافحة التعديات، من فرض سيطرتها التامة على منشآتها ومنع التعديات عليها، أيا كانت طبيعة هذه التعديات.

إزالة التعديات
قد يسارع البعض الى ربط التعديات والتخلّف عن سداد الفواتير بالخلفيات المذهبية لأهالي المنطقتين. وهذه صفة يربطها البعض أحيانا بفكرة المحميات العصية على الدولة وسيطرتها، والتي اصطبغت بها بلدة جلالا منذ قطنها طفار من عائلة زعيتر. إلا أن هذا الاستنتاج لن يكون دقيقاً عند التمعن في خارطة التعديات على منشآت مؤسسة كهرباء لبنان ومقارنتها بخارطة القرى التي تلتزم بدفع فواتيرها مئة بالمئة لشركة كهرباء زحلة.

والخارطة الأولى وزّعها مدير عام مؤسسة كهرباء لبنان كمال الحايك على مجلس الوزراء في معرض طلبه للمؤازرة الأمنية في إزالة التعديات. وهي تضم في البقاع الأوسط الى جانب جلال كلاً من مجدل عنجر، الفاعور، الدلهمية، وكفرزبد. وفي منطقة جنوبي البقاع بلدات مشغرة ولبايا وميدون، الى كل من غزة، وكامد اللوز، الصويري، وجزء من بلدة المرج الذي لا يتغذى من مؤسسة كهرباء لبنان، والمنصورة. لتتساوى كلها مع بلدات محافظة بعلبك التي وضعت على خارطة التعديات، والتي تتساوى فيها كل من عرسال مع نبحا، حام، معربون، دار الواسعة، اليمونة والكنيسة، مقنة، الشراونة، بريتال، الحمودية، طاريا، حور تعلا، الخضر، الخريبة، وحوس النبي.

كهرباء طائفية
تفتخر شركة كهرباء زحلة في كل مرة بالمقابل، بأن نسبة الهدر على شبكتها لا تذكر، وجميع مشتركيها يدفعون فواتيرهم. وبالتالي لا فرق في نطاقها بين سعدنايل وعلي النهري ورياق، وبينها وبين بر الياس والكرك وزحلة وباقي القرى التي تؤمن لها الشركة الخاصة خدمة النقل كما خدمة التغذية من مولداتها الخاصة. وفي هذا النطاق كما يكرر أسعد نكد مدير عام الشركة لا فرق بين مسلم سني أو شيعي ومسيحي.

وهذا الواقع أمّن ارتياحا لشركة الكهرباء وأعفاها من النقاش حول واجبات المستهلكين بتسديد الرسوم كاملة، ولو بظل الارتفاع الكبير لفواتير الشركة المرتبط بالسعر التصاعدي لمادة المازوت المستخدمة في تشغيل المولدات الخاصة. ولم تساوم الشركة على حقها باستيفاء هذه الفواتير حتى بالنسبة للمؤسسات العامة. وعندما حاول بعض أبناء العشائر في منطقة سعدنايل العصيان عليها وامتنعوا عن تسديد فواتيرهم لشهرين في العام الماضي، قطعت عنهم التغذية. فاضطروا لدفع فواتيرهم فورا ومن دون مساومات وتسويات. وهذا الواقع سرى على التسعيرة الجديدة التي بدأت مؤسسة كهرباء لبنان باستيفائها من ضمن نطاق خدمة شركة كهرباء زحلة وحتى وإن أعرب البعض عن امتعاضه من بدء تطبيقها من دون أن تفي المؤسسة بالتزاماتها المنصوص عنها في عقد شركة كهرباء زحلة التشغيلي، والذي يوجب تأمين التغذية بمعدل عشر ساعات يوميا من خلال مؤسسة كهرباء لبنان.

في المقابل تظهر متابعة لمجمل حملات إزالة التعديات التي رافقت كل خطة لتأمين الكهرباء منذ بدايات القرن الحالي، أنها لم تكن سوى فقاعات إعلامية فارغة. وقد جوبهت في بعض الأحيان بالاعتراضات، واستغل فيها  ضعف نفوذ الدولة على بعض أراضيها، ليمنعوا تطبيق قوانينها في مناطق أخرى. وهكذا عندما كانت تتوجه فرق إزالة التعديات الى مجدل عنجر مثلاً، كان يعيب عليها عدم قدرتها على الذهاب الى بعلبك، وعندما تدخل أحدى المدن المسيحية، يقال لها أنها لا تستقوي إلا على المسيحيين، وكانت النتيجة تراجع زخم هذه الحملات لتتوقف في معظم الأحيان من دون محاسبة المعتدين أو أقله قمع مخالفاتهم.

التعدي على الشبكة
وحتى عندما أظهرت بعض هذه الحملات جدية أكبر، كما حصل مثلا في سنة 2019، عندما نزلت وزيرة الطاقة ندى البستاني بنفسها الى أرض بعلبك تأكيدا على الإصرار بالمضي في قمع المخالفات، مرفقة الخطة بتخفيضات وصلت الى نسبة 75 بالمئة على تركيب العدادات، تبددت جدواها العملية على الأرض، عندما امتنعت مؤسسة كهرباء لبنان عن متابعتها حتى النهاية، ليفاقم الوضع المعيشي المتردي، من حجم المشكلة التي اضافت اليها الفوضى العارمة المترافقة مع انقطاع الكهرباء، عامل التعدي على الشبكة من قبل مخيمات النازحين. بالإضافة الى عامل سرقة تجهيزات المنشآت وكابلات الكهرباء وعواميد التوتر العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان.

المشكلة الكبيرة في هذه الحملات أنها ليست موجعة فعلا للمعتدين والمتعدين على الحقوق العامة كما ترى بعض المصادر. فعلى رغم تحويل بعض هؤلاء الى المحاكم إثر الحملات التي نفذت، لم يصدر قرار قضائي لافت بتجريم أحدهم حتى الآن. وفي هذا الإطار تؤكد مصادر في النيابة العامة الاستئنافية بالبقاع "أنها كنيابة عامة أحالت وتحيل المخالفين الى المحاكم، وهي نظرت في كل الملفات التي أحيلت اليها وأصدرت فيها قراراتها الإتهامية، لتسلك الملفات مسارها القانوني. بإنتظار أن تدّعي المحاكم عل المخالفين بالحبس والغرامات" وتتحدث المصادر عن تعديلات أدخلت على القوانين التي تلاحق المعتدين على شبكة الكهرباء منذ التسعينيات إلا انها حتى الآن لم تطبق بالصرامة المطلوبة.. وخصوصاً أن كل الظروف التي إستجدت منذ سنة 2019 وإندلاع الثورة وإنفجار المرفأ والأزمة الاقتصادية واعتكاف الموظفين والقضاة، لم تسمح بإنتاج جيد في القضاء. وهذا برأي المصادر واحد من العوامل التي ساهمت بتعميم الفوضى على كل المستويات، ومن ضمنها ما تواجهه حاليا من سرقات كبيرة للأسلاك الكهربائية والكبلات، التي تقول مصادر الضابطة العدلية أنها ظاهرة مستفحلة في كل لبنان، فكيف الحال في البقاع المترامي الأطراف.

المسار القضائي
وتؤكد المصادر بأن المسار القضائي لا شك انه يخلق الروادع عند المواطنين. ولكنه وحده غير كاف. وإنما يجب ان يكون مساراً دائماًـ إذ لا يمكن للحملات أن تقتصر على ايام ومن ثم تتوقف. فالمسألة كلها رهن بهيبة الدولة وفرضها على الأرض وقوتها. ولكن عندما لا تكون الأمور اللوجستية متوفرة لدى الأجهزة الأمنية من آليات وعديد، لا يمكن أن نحمل الضابطة العدلية كل المسؤولية.

في الحديث عن الإمكانيات المتوفرة لدى الأجهزة الأمنية لمواكبة الفرق الفنية التي يفترض أن تتوجه الى القرى قريبا لمتابعة عملية إزالة التعديات التي إعتبرت عنصراً أساسيا من عناصر تنفيذ خطة الكهرباء، الى جانب إستيفاء الرسوم بشكل منتظم، تؤكد مصادر إدارية بأنها لم تتلق حتى الآن دعوة لإنعقاد مجالس الأمن الفرعية في البقاع من أجل البحث في مواكبة الخطط الموضوعة. مما يعني أن محافظتي البقاع أو بعلبك لم تتلقيا تعليمات مباشرة من وزارة الداخلية لبدء التحضير اللوجستي لهذه العمليات. وترجح المصادر بأن يكلّف الجيش اللبناني بهذه المهمة وخصوصاً في المناطق التي يمكن أن تخلق فيها عملية إزالة التعديات تشنجات وتوترات أمنية.

إلا أن محافظ بعلبك بشير خضر يستبعد أن تترافق الحملات المقبلة إذا نفذت مع تشنجات شبيهة لتلك التي كانت تسود سابقاً. وليس ذلك فقط بسبب الجو الأمني الذي أشاعته العمليات العسكرية الصارمة في منطقة بعلبك بإطار خطة فرض الأمن بالمنطقة وملاحقة المطلوبين، بل أيضا لكون الكهرباء مقطوعة منذ مدة عن الناس، وبالتالي لا فرق بالنسبة لهم بين إزالة التعديات وبقائها.  

مؤازرة الجيش
يسجّل محافظ بعلبك مآخذه بالمقابل على الأداء المرافق لعملية إزالة التعديات التي يعترف أنها كبيرة. مشرحاً إياها بين تعديات من قبل اللبنانيين وتعديات من قبل مخيمات النازحين، والتي قال إنها تشكل خمسين بالمئة من حجم الهدر في هذه المنطقة.  إلا أنه يلفت في المقابل الى كونه أوّل من فتح ملف الاعتداءات على شبكة الكهرباء في محافظة بعلبك الهرمل منذ سنة 2016. ولهذه الغاية قامت المحافظة بمسح لجميع مخيمات النازحين السوريين لتعرف ملكية الأراضي التي تقوم عليها المخيمات، وحوّل الملف مع تحقيق كبير الى المدعي العام المالي، كما قدمت المحافظة نسخة عنه الى الوزير فياض، وكان الجيش جاهزاً لتأمين المؤازرة العسكرية لإزالة التعديات ولم يكن أي تجاوب بالموضوع.

وبرأي خضر أن موضوع رفع التعرفة يجب أن يسبقه رفع التعديات. لأنه إذا كان البعض يتخلف عن تسديد الفاتورة على تسعيرة دولار 1500 فكيف سيصحح وضعه  على سعر الدولار حالياً. 

المخميات والتعديات
وإذ يوافق خضر على أن إزالة التعديات في المخيمات يكون أسهل من إزالة تلك التي يقترفها أبناء المنطقة اللبنانيين على الشبكة، ولكنه يرى انه في حالة مؤازرة الجيش يمكن للحملات أن تمر بسهولة أكبر. ولكن العبرة بالنسبة له تبقى بالمتابعة حتى لا تعود التعديات فور إنتهاء الحملات، وبتعديل القوانين حتى يكون العقاب موجعاً. مضيفا " بالنهاية هذه الكهرباء لها ثمن، ومن يدفع الثمن هم الشعب اللبناني، الذي طارت حقوقه من المصارف، وبالتالي من يسرق الكهرباء يسرق الشعب اللبناني والبلد. خصوصا ان جزءاً كبيراً من الدين العام مرتبط بموضوع الكهرباء."

في المقابل ترى مصادر كهربائية أن إزالة التعديات لن تكون كافية من دون تطبيق سياسة العصا والجزرة. وبالتالي تتوقع أن يكون بمقابل إزالة التعديات مكافآت للمدن والبلدات التي تؤمن الجباية الكاملة، وذلك عبر زيادة التغذية لها. خصوصاً أن ذلك يضمن للمؤسسة الواردات التي تحتاجها لتسديد سلفة الخزينة ضمن مهل الستة أشهر، وبنفس الوقت يخفف من الحنق المبرر لدى فئة من المواطنين تتعمم الإنطباعات لديها بأن من يحترم القوانين يعاقب بتسديد كلفة الفاتورة الباهظة عن نفسه وعن غيره ممن يتعدون على الشبكة ويتخلفون عن تسديد واجباتهم للدولة.