المفاوضات تكشف قواعد اللعبة الجديدة.. اقتصاد الجنوب مقابل تفكيك السلاح

قالت مصادر لبنانية متقاطعة إن الاجتماع غير المسبوق الذي جمع وفدين مدنيين؛ لبنانيا وإسرائيليا في الناقورة لأول مرة، هو خطوة أولى لإدخال الجنوب اللبناني مرحلة سياسية–أمنية مختلفة. ووصفت المصادر المرحلة بـ "اقتصاد السلام"، حيث تُطرح مشاريع إعادة إعمار وحوافز اقتصادية مقابل خطوات متدرجة للحد من انتشار سلاح حزب الله جنوب الليطاني.

ورغم نفي الحكومة اللبنانية وجود أي مسار تطبيعي، تلفت المصادر إلى أن ما يجري هو إطار تفاوضي هادئ برعاية أميركية ـ دولية، يقترب من رسم قواعد لعبة جديدة على الحدود بين لبنان وإسرائيل. 

 تثبيت وقف النار وتوسيع إطار اللجنة

الاجتماع الأخير في الناقورة، والذي شارك فيه وفد لبناني مدني برئاسة السفير السابق سيمون كرم، والوفد الإسرائيلي المقابل بمشاركة مسؤولين مدنيين أيضا، "لم يكن اجتماعا دوريا للجنة مراقبة وقف إطلاق النار، بل خطوة سياسية بامتياز"، وفقا لمصدر سياسي لبناني مطلع على طبيعة النقاشات التي دارت أمس .

وقال المصدر لـ "إرم نيوز" إن الاجتماع ركز على تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ نهاية 2024، في ظل استمرار الضربات الإسرائيلية المحدودة، ومحاولة منع انزلاق الوضع نحو جولة جديدة قد تكون أكثر عنفا وكلفة.

كما ناقش الطرفان – وفق المصدر – آلية توسيع صلاحيات لجنة الهدنة، بحيث تشمل التحقق من الخروقات، ودراسة إمكان إشراك مراقبين دوليين إضافيين من فرنسا أو الولايات المتحدة، في خطوة تُقرأ كتمهيد لمرحلة أمنية أكثر تشددا جنوب الليطاني.

هذا التوجه يعكس، كما يقول المصدر، تغيرا في مقاربة الدولة اللبنانية، التي ترى أن اشتراك شخصيات مدنية في الحوار يعطيه طابعا تفاوضيا غير عسكري، ويتيح التقدم نحو ملفات أكثر حساسية تتجاوز "الخرائط والخنادق" إلى مستقبل الأمن في الجنوب كله.

"اقتصاد الجنوب" كحافز لتهدئة طويلة

النقطة الأكثر حساسية في اجتماعات الناقورة كانت، بلا شك، وفق المصدر، ما باتت تسميه واشنطن وباريس "اقتصاد السلام"، والذي يقوم على حزمة حوافز اقتصادية واسعة، تتضمن مشاريع إعادة إعمار، وتطوير بنى تحتية، وربما إنشاء منطقة اقتصادية خاصة بالقرب من الخط الأزرق، بتمويل عربي ودولي مباشر.

وتنقل مصادر "إرم نيوز" أن مبعوثين أميركيين طرحوا تصورا لإعادة بناء القطاع الزراعي والصناعي في الجنوب، وخلق آلاف فرص العمل، مع تقديم دعم مالي لمشاريع الطاقة والطرق والمرافئ، حيث ترى واشنطن أن هذه "البيئة الاقتصادية البديلة" يمكن أن تصبح بديلا تدريجيا لما يُعرف بـ"اقتصاد المقاومة" الذي شكل لعقود واحدة من ركائز نفوذ حزب الله في الجنوب.

وتشير  إلى أن الجانب الإسرائيلي وافق على بحث الخطط الاقتصادية بشرط ربطها بـ ضمانات أمنية صارمة، وبخطة واضحة لوقف أي نشاط عسكري للحزب قرب الحدود. بينما شدد الوفد اللبناني على أن أي تعاون اقتصادي لا يعني تطبيعا سياسيا، وأن الأولوية تبقى تثبيت وقف النار وانسحاب إسرائيل من النقاط المتنازع عليها، قبل الدخول في أي ترتيبات اقتصادية أوسع.

ومع ذلك، ترى المصادر أن إدراج البعد الاقتصادي للمرة الأولى في محادثات الناقورة، وبشكل معلن، يعكس حجم الرغبة الدولية في تحويل الجنوب من ساحة صراع مفتوح إلى منطقة استثمار واستقرار. 

السلاح.. الهدف غير المعلن للمفاوضات

على الرغم من أن أي طرف لم يعلن رسميا بحث ملف سلاح حزب الله في الناقورة، إلا أن جميع التسريبات الدبلوماسية والسياسية تشير إلى أنه محور النقاش الحقيقي، بحسب مصادر "إرم نيوز"؛ فالوفد الإسرائيلي طرح شرطا واضحا بتفكيك بنية حزب الله العسكرية جنوب الليطاني، وفصل الجبهة الشمالية عن الحرب الدائرة في غزة، كمدخل لأي تهدئة طويلة الأمد.

وفي المقابل، طرح الوفد اللبناني معادلته التقليدية القائمة على تنفيذ القرار 1701 كاملا، وانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وفرض حصرية السلاح بيد الدولة وفق خطة تدريجية تبدأ جنوب الليطاني.

أما الجديد، كما يقول المصدر السياسي اللبناني، فهو استعداد بيروت للبحث في آليات عملية للتنفيذ، عبر مناطق منزوعة السلاح، إعادة انتشار الجيش اللبناني، توسيع دور اليونيفيل، وربط كل خطوة بتسهيلات اقتصادية.

"هذا الربط بين الأمن والاقتصاد هو ما تخشاه قيادة حزب الله، لأنه يحول الجنوب إلى فضاء مشروط دوليا، حيث أي انتهاك أو إطلاق صاروخ سيُترجم فورا بتجميد مساعدات أو وقف مشاريع إعادة إعمار" بحسب المصدر.

حزب الله.. ضغوط من 3 اتجاهات

تلفت المصادر السياسية والإعلامية إلى أن الحزب يواجه اليوم ضغوطا غير مسبوقة، من ثلاثة اتجاهات؛ أولها الضغط العسكري المستمر من قبل إسرائيل، من خلال تكثيف استهداف مخازن السلاح والمواقع اللوجستية، ما يجعل الحزب مضطرا للتهدئة لتجنب استنزاف طويل المدى.

والمستوى الثاني من الضغوط مصدرها الدولة والمجتمع الدولي؛ فانتشار الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وتعهد الحكومة بتثبيت وقف النار، واستخدام الملف الاقتصادي كورقة ضغط، كلها عوامل تجعل استمرار "وضعية ما قبل 2024" مستحيلا.

أما الضغط الآخر الذي يواجهه حزب الله، فهو ضغط شعبي داخلي، ذلك أن مزاج اللبنانيين – المتعبين اقتصاديا – يميل بوضوح إلى تجنب حرب جديدة، وهو ضغط لا يمكن للحزب تجاهله في بيئته قبل أي مكان آخر.

رغم ذلك، لا يبدو أن الحزب "محاصر بالكامل" كما تقول المصادر، فهو ما يزال يمتلك ترسانة صاروخية بعيدة المدى، وقدرات عسكرية لا تغطيها مفاوضات الناقورة، ودعما إيرانيا سياسيا وعسكريا مستمرا. "لكن ما تغير هو أنه للمرة الأولى يقف خارج غرفة التفاوض بينما يتحدد مستقبله داخلها". 

هل يسعى الحزب لإفشال المفاوضات؟

تقول المصادر إن أمام حزب الله ثلاثة خيارات اليوم في مواجهة مسار المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية؛ فهو إما يقرر إفشالها "بالأسلوب الخشن" عبر التصعيد العسكري، وهو خيار متاح تقنيا لكنه عالي الكلفة، ويجر لبنان إلى مواجهة واسعة، ما يجعله أقل احتمالا في هذه المرحلة. وإما يعتمد "الإفشال الناعم" عبر التعطيل السياسي؛ أي القبول الشكلي بالمسار، مع استخدام نفوذه الحكومي لتجميد أي خطوات تمس بنيته العسكرية. وهذا السيناريو يبدو الأقرب إلى مقاربته الحالية.

أما السيناريو الثالث فهو أن يختار حزب الله التعايش القسري مع "اقتصاد السلام"، وهو احتمال يتقدم إذا شعر الحزب بأن بيئته الحاضنة تستفيد من مشاريع الإعمار، مقابل ضمانات بعدم المساس بسلاحه الاستراتيجي.

حتى الآن - ترى المصادر - أن الحزب يوازن بين الرفض والخشية، ويراقب تفاصيل الاجتماعات من دون أن يدخلها. لكن ما يجري في الناقورة، بحسب مصادر سياسية، يؤسس لبنية تفاوضية قد تتحول مستقبلا إلى إطار لإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والحزب، وبين لبنان وإسرائيل، عبر بوابة الاقتصاد قبل السياسة.