المواد الاستهلاكيّة المغشوشة تكتسح الأسواق وتدخل البيوت

قاتل مجهول لا يحمل سكينا ولا يترك آثار دماء، يتسلل بصمت من أسواق لبنان إلى بيوت مواطنيه، يتموضع بين رفوف المتاجر، حيث تتكدس منتجات غذائية رخيصة الثمن، مغرية لجيوب أنهكها الانهيار الاقتصادي، فيما يبقى ثمنها الحقيقي مؤجل الدفع من صحة اللبنانيين وأمنهم الغذائي.

ففي بلد يرزح تحت انهيار اقتصادي، بات الغش يشكل خطراً حقيقياً على حياة الناس، فبعد أن كان يشكل حالات معزولة، تحول في السنوات الاخيرة إلى أزمة بنيوية، تتناول المواد الأساسية من زيت الزيتون ومعجون الطماطم، إلى الألبان والأدوية، في ظل جهاز رقابي ضعيف، وعقوبات لا ترقى إلى حجم الخطر المحدق بحياة الناس.

وفي هذا المجال ، تشير المستشارة التربوية والنفسية في جمعية "إثراء لبنان" سمر رحمة لـ "الديار"، إلى "أن الغش لا يقتصر على كونه خرقا قانونيا أو اقتصاديا، بل يعكس أبعادا اجتماعية ونفسية متعمقة "، وتقول "يبدأ الغش أحيانا كخيار صغير لحماية النفس أو لتحقيق مصلحة محدودة، لكنه يتراكم مع الوقت ويصبح سلوكا يؤثر في الفرد والمجتمع، ويضعف القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. هذه التصرفات ليست مجرد أخطاء شخصية، بل هي نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، وقد تؤدي إلى تآكل الضوابط الأخلاقية وتشويه الانتماء المجتمعي".

غياب القانون الواضح يشجّع على التجاوزات

وتوضح أن "بعض الأفراد يتأثرون بالبيئة المحيطة منذ الصغر، وما يشاهدونه قد يتحول إلى عادة تتكرر خلال فترات الحرب والتهجير، شاهدنا حالات سرقة مواد أساسية أو محتويات مستشفيات ومدارس لأسباب معيشية، وهذا يخلق نوعا من التكيف الاجتماعي، بحيث يعتاد الفرد تجاوز القوانين عند مواجهة ضغوط اقتصادية حادة. ومع الوقت يصبح الغش مقبولا اجتماعيا بشكل غير مباشر، وإذا تراكم على نطاق واسع، يؤدي إلى تآكل الثقة بالمؤسسات العامة وضعف الانتماء للمجتمع والدولة".

وتشير إلى أن "بعض الأفراد يبررون الغش لأنهم يشعرون بالظلم أو الحرمان، ما يضعف إحساسهم بالمسؤولية تجاه مجتمعهم وعائلاتهم، ومع مرور الوقت يصبح من الصعب عليهم تصديق وجود عالم عادل، ويضعف شعورهم بالانتماء والروح المواطنية"، مضيفة "النتيجة على المدى الطويل تظهر حتى في الأعمال التجارية، فالمتاجر التي تغش قد تحقق أرباحا قصيرة المدى، لكنها تخسر السمعة والثقة التي بنيت على مدار سنوات، ويبتعد عنها الزبائن. لذلك، الاستمرارية في السلوكيات الصحيحة والتمسك بالقيم والنزاهة، هي الطريقة الوحيدة لضمان استقرار المجتمع والحفاظ على الثقة بين الناس والدولة".

وتؤكد على "أهمية القانون الصارم لضبط السلوكيات ، فغياب القانون الواضح يشجع على التجاوزات، بينما وجود نظام يفرض العقوبات ويضمن مراقبة دقيقة، كما هو الحال في بعض الدول مثل الإمارات، حيث يدرك الفرد أن لكل فعل نتائج محددة، سواء كان صوابا أو خطأ، فالإنسان يحتاج إلى أن يعرف حدود الصواب والخطأ، وأن يكون هناك مكافأة للفعل الصحيح وعقوبة للفعل الخاطئ، هذا الالتزام بالقوانين يرسخ السلوكيات الصحيحة تدريجيا، ويعزز احترام النظام، ويجعل المجتمع أكثر وعيا ومسؤولية، بحيث يصبح الأفراد أكثر التزاما بالقيم الأخلاقية والمواطنة".

إنهيار منظومة الاقتصاد والرقابة معاً

يشار إلى أن ضابطة شتورا، نفذت عمليات مداهمة وتفتيش شملت مطحنا في بر الياس ومستودعا في تعنايل هذا الأسبوع (16 كانون الأول)، أسفرت عن ضبط كميات كبيرة من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك البشري، حيث اعتبر النائب بلال الحشيمي أن هذه الوقائع "تمثل اعتداء مباشرا على صحة المواطنين وسلامتهم"، مشيرا إلى أن ما حصل "يعكس غشا غذائيا وجشعا يهدد حياة الناس"، وشدّد على "ضرورة تطبيق القوانين الصارمة، لحماية الصحة العامة ومنع أي تجاوزات مماثلة".

خبير اقتصادي وأستاذ في إحدى الجامعات اللبنانية فضل عدم الكشف عن اسمه، يرى أن "الغش ليس مجرد تجاوزات أخلاقية، بل هو نتيجة مباشرة لانهيار منظومة الاقتصاد والرقابة معاً"، ويضيف "تراجع القدرة الشرائية وارتفاع كلفة الإنتاج والاستيراد، يدفع بعض التجار والمصنعين إلى خفض الكلفة بأي ثمن، عبر استبدال مكونات أساسية بأخرى أرخص، أو تسويق منتجات منتهية الصلاحية، أو التلاعب بالمواصفات"، مشيرا إلى انه "حين تغيب الدولة كضابط للسوق، يتحول المستهلك إلى الحلقة الأضعف، وتصبح صحة الناس جزءا من معادلة الربح والخسارة".

أساليب الغش

تتعدد أساليب الغش في لبنان، وفق معطيات جمعيات حماية المستهلك وخبراء السلامة الغذائية:

 

ـ إضافة مواد غير مصرح بها، مثل النشا والملونات والمواد الحافظة لزيادة الحجم أو تحسين الشكل.

ـ تزوير بلد المنشأ أو العلامة التجارية، خاصة في زيت الزيتون والعسل.

ـ بيع منتجات منتهية الصلاحية بعد تعديل التواريخ أو إعادة التغليف.

ـ تخزين السلع بشكل غير مطابق للشروط الصحية بسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع كلفة التبريد.

ـ ازدهار السوق الموازي للسلع المهربة وغير الخاضعة لأي فحص.

يشار إلى أن جمعية "اليازا" حذرت في 15 كانون الأول 2025 من الفوضى في سوق الإطارات في لبنان، مؤكدة أن بعض التجار يبيعون إطارات غير مناسبة للطرقات المحلية أو مزورة التواريخ، ما يشكل تهديدا مباشرا لحياة السائقين والمشاة، كما تم إغلاق مصنع أحذية غير مرخص من قبل جمارك ضابطة صيدا في 17 كانون الأول 2025، في محلة جدرا - الشوف، يقوم بتصنيع أحذية تحمل دلالات وعلامات تجارية تعود لماركات عالمية معروفة.

الغش خيار مُربح

رسمياً، تتولى وزارة الاقتصاد ووزارة الصحة مسؤولية الرقابة على سلامة الغذاء، من خلال جولات تفتيش وإقفال المؤسسات المخالفة، لكن الواقع يختلف كثيرا، فبحسب مصادر متابعة، هناك نقص حاد في عدد المراقبين، وضعف في الإمكانات اللوجستية والمخبرية، وبطء في تطبيق العقوبات القضائية، إضافة إلى غياب الشفافية في نشر نتائج الفحوص بشكل دوري.

ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن "الرقابة الموسمية لا تكفي، وما لم تتحول العقوبات إلى رادع حقيقي وسريع، سيبقى الغش خيارا مربحا"، ما يجعل المواطن اللبناني أمام واقع مؤلم، في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية تهدد صحته.

يشار إلى أنه تم إقفال صيدلية في أنطلياس مؤخراً، وتحديداً في 15 كانون الأول 2025، من قبل الجمارك اللبنانية (شعبة المكافحة البرية)، بسبب ضبط كميات كبيرة من الأدوية المهربة، منتهية الصلاحية، ومواد مثل البوتوكس والفيلر.

اين الحلّ؟

في ظل هذا الواقع، يترك المواطن وحيدا في مواجهة الخطر، فيما تنصح الجهات الخبيرة بشراء المنتجات من مصادر موثوق بها قدر الإمكان، وقراءة الملصقات بدقة، والحذر من الأسعار المنخفضة بشكل غير منطقي، والإبلاغ عن أي شكوى عبر الجهات المختصة أو جمعيات حماية المستهلك، لكن هذه النصائح، رغم أهميتها، تبقى حلولاً فردية لا تعالج جوهر المشكلة، حيث يتفق الخبراء على أن الحد من الغش لا يقتصر على جهود فردية للمستهلكين بل يتطلب:

ـ تعزيز الرقابة الميدانية والمخبرية بدعم فعلي ومستدام.

ـ تحديث القوانين وتشديد العقوبات لتصبح رادعة.

ـ نشر نتائج الفحوص بشفافية لإعادة بناء الثقة بين المستهلك والدولة.

ـ دعم المنتجين الملتزمين بدل تركهم ينافسون سوقا غير عادلة.

ـ إشراك الإعلام والمجتمع المدني في كشف المخالفات وعدم تطبيعها.

في ظل هذا الواقع، يظل المواطن الحلقة الأضعف، والحلول الفردية كاختيار منتجات موثوقبها  وقراءة الملصقات ضرورية، لكنها غير كافية دون تدخل منهجي من الدولة والمجتمع.

يشار إلى أنه تم تسجيل ما لا يقل عن 476 مخالفة لمعايير السلامة الغذائيّة بحسب وزارة الاقتصاد خلال عمليات تفتيش على الأسواق والمنتجات الغذائية حتى تشرين الأول 2025.