المودعون ينتظرون الفائض...«النَطرَة طويلة شوي»

الشرط الأساسي للنجاح في أي مشروعٍ أو خطة للتعافي، والخروج التدريجي من الانهيار، يكمن في عودة الانتظام إلى المالية العامة، وإلى وقف مسلسل العجز السنوي في الموازنة، والتحوّل إلى فائض يتيح استخدام المزيد من الأموال في دعم الاقتصاد. فهل الوصول إلى مرحلة الفائض من الأمور المُتاحة، وما هو الثمن المطلوب لذلك؟

من خلال مشروع موازنة العام 2022، ومن خلال المواقف النيابية المواكبة لهذا المشروع، يتضح كم سيكون صعباً إقرار موازنات تتماهى والأرقام المطلوبة للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. والإشكالية المحيطة بهذا الموضوع ترتبط بجوانب تقنية واجتماعية وسياسية، كلها معقّدة.

 

من الملفت انّ الاقتراحات الجديدة التي قدّمها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتُضاف إلى خطة الإنقاذ القائمة، تستند إلى مبدأ ربط تغذية «صندوق التعافي» بفائض الموازنة. لكن الملفت اكثر، انّه تمّ تحديد الفائض الاولي كمعيار لتغذية الصندوق المقترح، وليس الفائض الإجمالي، وهذا الأمر يدعو إلى طرح اكثر من علامة استفهام. فهل انّ الوصول إلى تحقيق فائض أولي، يكفي للبناء عليه لرسم مخططات دعم الاقتصاد، وتسديد مستحقات؟ وهل الفائض الأولي هو تحصيل حاصل في الموازنات المقبلة؟ وما هي «التضحيات» المطلوبة لبلوغ هذه المرحلة؟

 

في الواقع، هناك مجموعة معطيات قد تساهم في بلوغ حقبة الفائض الأولي في الموازنة، من ضمنها ما يلي:

 

اولاً- يبدو في احتساب الارقام، انّ مالية الدولة ستكون في وضع مريح اكثر من السابق، أي قبل الانهيار، حيث انّ الحكومة ستشطب القسم الأكبر من الديون، بما سيدفع نسبة الفوائد في الإنفاق العام، والتي كانت تشكّل حوالى 30 الى 35%، إلى التراجع إلى ما دون الـ10%، بما فيها الفوائد التي ستُدفع مقابل القرض الذي قد يُفرج عنه صندوق النقد الدولي تباعاً، في حال الوصول إلى اتفاق نهائي معه.

 

ثانياً- نسبة الإنفاق الحالي على الرواتب والاجور في القطاع العام وصلت الى حوالى 10% مقارنة مع الإنفاق العام المُقدّر للعام 2022. هذه النسبة صارت مقبولة، وتتماهى والمعايير المالية المعتمدة في الدول التي لا تعاني من عجوزات في موازناتها. في حين انّ كتلة الرواتب والأجور تجاوزت الـ35% في الموازنات التي سبقت الانهيار في نهاية العام 2019.

 

ثالثاً- حجم الإنفاق العام في الدولة، وفق ما هو مرسوم في مشروع موازنة العام 2022، يبلغ حوالى 49 الف تريليون ليرة، محتسبة على سعر صرف لا يتجاوز الـ20 الف ليرة للدولار الواحد. أي انّ الإنفاق يصل الى حوالى 2,5 مليار دولار. وهذا يعني انّ الإنفاق العام يوازي حوالى 12% من حجم الـGDP المقدّر بـ22 مليار دولار. هذه النسبة تُعتبر جيدة في المعايير المالية، على اعتبار انّ الإنفاق العام في الموازنات قبل العام 2019، وصل إلى ما نسبته 30 إلى 35% من الناتج المحلي.

 

لكن هذه الأرقام لا تعني انّ تحقيق فائض أولي صار من الامور السهلة، بدليل انّ مشروع موازنة 2022 نفسه، يعترف بعجز قدره 20,8%، في حين انّ التقديرات تشير إلى عجز حقيقي سيتجاوز هذا الرقم. وبالتالي، يتطلّب العبور من العجز إلى الفائض، واحداً من أمرين: إما خفض الإنفاق بنسبة إضافية كبيرة، وإما زيادة الإيرادات بنسبة كافية لتغطية العجز. وبما أنّ الإنفاق وصل إلى الحدّ الأدنى الذي لا يمكن النزول تحته، بل من المرجّح ان تكون هناك ضرورة إلى إدخال تعديلات ترفع بعض الشيء مستوى الإنفاق، لضمان تسيير عجلة الدولة بالحدّ الأدنى.

 

لذلك، يبقى المخرج المُتاح مرتبطاً بزيادة الإيرادات. هذا المخرج يزداد ضيقاً وصعوبة كلما مرّ الوقت، وتدهور الوضع المالي العام أكثر. ولأنّ تغيير النظام الضرائبي لن يكون مجزياً في هذه الحقبة من الانهيار القائم، فإنّ الحلول تبقى محصورة في ناحيتين: إستيفاء الرسوم والضرائب على سعر صرف جديد، بما يعني عملياً رفع الضرائب والرسوم بنسبة لا تقلّ عن 1500%، ولو انّ الحكومة لا تسمّي ذلك رفعاً، بل تعتبره تصحيحاً للاقتراب من سعر صرف الدولار الذي ارتفع حوالى 2000% (20 ضعفاً). ولكن التسميات لا تؤثر على المضمون، والذي يعني انّ الاستحقاقات على المواطن سترتفع بنسبة كبيرة، في حين انّ المداخيل بالكاد ارتفعت بما يوازي 10% قياساً بانهيار الليرة.

 

انّها المعادلة الصعبة التي ستواجه السلطة، خصوصاً انّ الإجراءات المواكبة، والمتعلقة بمكافحة الاقتصاد الأسود والتهريب والتهرّب الضريبي، كلها ملفات متشابكة يسهل الحديث عنها والمطالبة بها، ويكاد يستحيل تطبيقها في ظلّ المناخ السياسي السائد.

 

اما الناحية الثانية التي قد تشكّل مخرجاً جيداً لإشكالية تحقيق الفائض السريع في الموازنة، فترتبط بإمكانية إنجاز ترسيم الحدود البحرية، والبدء في الإفادة من الثروة الغازية. وهذا الملف ايضاً متشابك سياسياً، ومن غير الواضح بعد، إذا ما كان سيتجّه الى الحلحلة السريعة، أم سيبقى في قمقم التجاذبات المحلية والإقليمية والدولية.

 

وعليه، سيكون الحديث عن فائض، ضمن المعطيات الحالية على الأقل، من باب التمنيات ليس إلّا.