"النموذج" اللبناني يعود كل مرّة أكثر تشوّهاً: 100 عام من المرض الهولندي

في مطلع الشهر الماضي، نشر البنك الدولي دراسة أعدّها الاقتصادي شادي بو حبيب بعنوان «العولمة والمرض الهولندي والقابلية للتأثّر بالصدمات الخارجية في اقتصاد صغير مفتوح: الحالة اللبنانية بين عامَي 1916 و2019». تقول الدراسة إن لبنان يعاني من «المرض الهولندي» منذ 100 عام، وتشرح عوارض المرض ونتائجه عبر المقارنة بين اقتصاد «جبل لبنان» في أواخر القرن التاسع عشر حتى مجاعة عام 1916، وبين اقتصاد لبنان في أوائل القرن العشرين وصولاً إلى أزمة 2019. وتستنتج أنّ الأزمات ستظهر دائماً، ما دام نموذج لبنان الاقتصادي يعتمد على التدفّقات الخارجية التي تنتج ارتفاعاً في الأسعار الداخلية، وتقلّص فرص العمل، وتخفض الإنتاج، وتفرض الهجرة خياراً أساسياً للشباب ليكونوا «خطّ إنتاج» أساسي في التدفّقات الآتية من الخارج. يدور لبنان في هذه الحلقة منذ أكثر من 100 عام، وهي تنفجر على شكل مجاعة أو هجرة جماعية.

رفاهية جبل لبنان
يقتبس بو حبيب عبارة لحاكم تركي في جبل لبنان عام 1918، للدلالة على تاريخ اعتماد لبنان على التدفّقات الأجنبية: «إنّ الثروة والرفاهية اللتين ترونهما في هذا الجبل لا تأتيان من أرضه، بل من الأموال المدّخرة للبنانيين في المهجر». ويعرض جدولاً يعود إلى المدة 1910 - 1914 عن حصّة كل قطاع من الناتج في جبل لبنان. يومها كانت حصّة صناعة الحرير نحو 48% من الناتج، مقابل 54% للتحويلات من المغتربين في الأميركيّتين (الشمالية والجنوبية). حينذاك بلغ العجز في الميزان التجاري 30%. ومعظم ما كان لبنان يصدّره هو الحرير، وكل ما عدا ذلك يستورده. هذا الاستيراد يموّل بتحويلات المغتربين التي لم تكن تُستثمر إلا في قطاعات غير قابلة للتبادل مثل العقارات، وهذا كان سبباً أساسياً في رفع أسعار الأراضي. غير أن هذا المرض البنيوي جعل من اقتصاد جبل لبنان عرضة للصدمات الخارجية، فانهار قطاع الحرير، ثم انتشرت المجاعة في الحرب العالمية الأولى، وبعدها حصلت الهجرة.

الحرب الأهلية: قبلها وبعدها
ظلّ قطاع التحويلات يلعب دوراً مهمّاً في اقتصاد لبنان بين عامي 1920-1950. وتعزّز هذا الأمر في مطلع السبعينيات مع الفورة النفطية في الخليج. ثم جاءت الحرب الأهلية 1975-1990 ودفعت بهجرة كبيرة إلى الخارج، ما زاد الاعتماد على التدفّقات الأجنبية. في 1972 كانت التدفّقات الخارجية وتحويلات رأس المال تمثّل 20% من الناتج المحلي، وقد استُثمر جزء كبير منها في مراكمة احتياطات بالعملات الأجنبية وشراء الذهب. وكانت نسبة الصادرات من الناتج المحلي 38%، والاستيراد 46%، ونسبة الاستهلاك من الناتج 78%. أما في عام 1994، فقد وصلت نسبة التدفّقات من الناتج المحلّي إلى 70%، ما رفع نسبة الاستيراد من الناتج إلى 66%، والاستهلاك إلى 111%، وانخفض التصدير إلى 8%. في كل هذه الفترات، صبّت الاستثمارات في قطاعات غير منتجة مثل العقارات. وبدأ الأثر يظهر بوضوح أكبر في عام 2004، حين سجّلت القطاعات المنتجة للسلع القابلة للتداول في الزراعة والصناعة تراجعاً كبيراً في حصّتها من الناتج المحلي. وفي المقابل، تطوّرت بقوّة، القطاعات المنتجة لسلع غير قابلة للتداول في قطاع الخدمات والقطاع العام.

اقتصاد لبنان عاد إلى 1912
يركّز بو حبيب على المدّة بين عامي 1994 و2004 للإشارة إلى الأثر الواسع للتدفّقات الأجنبية على بنية الاقتصاد. وهو اختار عام 2004 تحديداً، لأنه حدّد هذا العام باعتباره نهاية مرحلة إعادة الإعمار لما بعد الحرب، والتي اغتيل بطلها الرئيس السابق رفيق الحريري. بعدها، لم يُطرح أي مشروع اقتصاد - سياسي، بل ركّز الحكّام على إطالة عمر النظام الموروث من الحريري حتى انهياره بحلول نهاية عام 2019.

وأجرى بو حبيب محاكاة لانعكاسات التدفّقات الخارجية على الأسعار. تبيّن له أنّ أيّ زيادة أو انخفاض بنسبة 10% في التدفّقات الأجنبية تنعكس مباشرة على الأسعار المحلية وعلى المداخيل أيضاً. لكن المثير للذهول، أن هناك تشابهاً في النتائج بين عامي 2020 و1912، أي بين عام الأزمة الشاملة، وعام المجاعة. واستنتج أن الاعتماد على التدفقات الخارجية في مرحلة ما بعد الإعمار، شوّه الاقتصاد اللبناني تدريجياً حتى عاد كما كان منذ نحو قرن. وتماثلت النتائج في التكيّف واستنزاف المجتمع عبر المجاعة في القرن التاسع عشر، وعبر الهجرة في القرن الواحد والعشرين.

نحو الأزمة بقرار
المشترك بين الاقتصادَين في عامي 1912 و2020، الاعتماد على التحويلات المالية من الخارج. ولكن أوجه التشابه لا تشمل السياسات المالية والاقتصادية. فمنذ 100 عام لم تكن الخيارات السياسية متاحة لأن لبنان كان تابعاً للإمبراطورية العثمانية، إنما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كانت القرارات السياسية واضحة عبر تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، واعتماد نظام العملة المزدوجة فيستخدم الدولار والليرة بالتساوي في جميع أنواع المعاملات. هذه السياسات سمحت بشكل أساسي للمصارف، باستقطاب رؤوس الأموال التي استفاد منها السياسيون عبر توجيهها إلى الناخبين.

والمستوردون، أي التجار، شجّعوا السياسات التي توسّع الأسواق لمنتجاتهم. كذلك، دفع المصرفيون وأصحاب العقارات في اتجاه المبالغة في تقييم الأصول العقارية لاستخدامها على نطاق واسع كضمان في عمليات الإقراض.
يختم بو حبيب: هذه الخيارات السياسية المدروسة مهّدت للأزمة عام 2019، وكان تأثير انعكاس التدفقات المالية غير مسبوق على المجتمع منذ المجاعة عام 1916. وبدلاً من المجاعة، يستنزف المجتمع اللبناني الآن قواه الحيوية عبر الهجرة الجماعية.

«المرض الهولندي»
هو مصطلح ظهر لأول مرّة كوصف للأزمة التي أصابت المجتمع الهولندي في الخمسينيات. يومها اكتشفت كميات كبيرة من الغاز على ساحل بحر الشمال، وبنتيجتها تحوّل الاقتصاد الهولندي إلى اقتصاد ريعي يركّز على عائدات الغاز ويهمل القطاعات الأخرى مثل الزراعة والصناعة. كذلك أصبح سلوك الفرد الهولندي استهلاكياً لا إنتاجياً. وارتفعت الأسعار بالتزامن مع زيادة في معدلات البطالة. ويصحّ تشخيص لبنان على أنه أصيب بالمرض الهولندي لأنه اعتمد لمدة زمنية طويلة على التحويلات الخارجية وأهمل القطاعات الأخرى. لذا، يندر توافر عمالة محليّة بسبب هجرة الشباب، أما معظم المقيمين في لبنان، فهم ينتظرون في طابور سحب التحويلات الآتية من المهاجرين.



5000 فرد
هو المعدل السنوي للهجرة من لبنان في مطلع القرن العشرين عبر ميناءَي بيروت وطرابلس. في عام 1914، كان عدد المقيمين في جبل لبنان يقدّر بنحو 350 ألف نسمة، وعدد المهاجرين بنحو 120 ألفاً

900 ألف
هو عدد المهاجرين في المدّة ما بين 2015 و2022 منهم 300 ألف بين عامَي 2020 و2022