النمو الاقتصادي اللبناني بين التحديات والفرص: الاستقرار يحدد المسار

"أفضل أداء اقتصادي منذ عام 2011". هو كلام لوزير الاقتصاد والتجارة اللبناني عامر البساط، الذي أضاف ان النمو قد يسجل نحو 5% خلال العام الجاري.

كلام قد تكون عكسته عائدات حضور المغتربين صيفاً، وتصريحات بعض مسؤولي القطاعات الإنتاجية في لبنان، بشأن تحسّن ملحوظ، ومؤشرات  استقرار في عدد من القطاعات الإنتاجية والخدمية، مقارنة بما سببته ولا تزال الأزمة المالية والاقتصادية، معطوفة عليها ازمة الودائع وعدم التوصل إلى تحديد الفجوة المالية أو تنظيم القطاع المصرفي.

الحديث عن تطور في المؤشرات الاقتصادية، تقابله تقديرات معاكسة للمؤسسات الدولية، فالبنك الدولي، الذي قدّر في حزيران/ يونيو الفائت أن يبلغ النمو الاقتصادي الحقيقي للبنان نحو 4.7% عام 2025، خفّض لاحقاً توقعاته في تقريره الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر إلى نحو 3.5%.

ما سبب الاختلاف؟
في حديثٍ خاص الى "النهار"، يشير الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان إلى أن "الفرق بين التقديرين يعود أساساً إلى اختلاف المنهجية والافتراضات المستخدمة"، شارحاً أن "البنك الدولي عادةً يتبنّى مقاربة محافظة تستند إلى المعطيات الفعلية القابلة للقياس، ويفترض استمرار الوضعين النقدي والسياسي على حالهما، من دون أي إصلاحات أو تحسّن في الثقة. لذلك تبقى تقديراته محصورة ضمن النمو الناجم عن النشاطات التقليدية كالسياحة والتحويلات والصادرات".

ويُتابع: "أما وزارة الاقتصاد فتبني تقديراتها على سيناريو أكثر تفاؤلاً، يأخذ بالاعتبار تأثير الموسم السياحي، توسّع النشاط الخدمي، وارتفاع الطلب المحلي الناتج من السيولة النقدية الكبيرة في السوق، إضافة إلى تثبيت نسبي في سعر الصرف وما يرافقه من استقرار نفسي لدى المستهلكين".

ويوضح "أن الفارق بين 3.5% و5% لا يُعد كبيراً في المقاييس الدولية، بل يعكس درجة مختلفة من الحذر في تقدير مساهمة القطاعات غير الرسمية، التي باتت تمثل نسبة مرتفعة من الاقتصاد اللبناني بعد 2019".

"نمو هش وموقت"...
يأتي ذلك في ظل مرحلة دقيقة يمرّ بها لبنان، الذي يعيش اقتصاده مزيجاً من مؤشرات التحسّن المحدودة والضغوط المستمرة على القطاعات الإنتاجية والمعيشية. ورغم التحديات، لا يزال الأمل قائماً بإمكان تحقيق نموّ يخفّف جزئياً من وطأة الأزمة.

وبسؤاله عن العوامل الأساسية التي قد تساعد لبنان على تحقيق نمو قريب من 5% هذا العام، يجيبب أن "تحقيق معدل نمو بحدود 5% ممكن في حال استمرار مجموعة من العوامل الظرفية الإيجابية، أبرزها الأداء القوي للقطاع السياحي، الذي يُعد المحرّك الرئيسي للنشاط الاقتصادي بفضل إنفاق الوافدين والمغتربين خلال الصيف. كما تساهم تحويلات اللبنانيين من الخارج، التي تشكل أكثر من ثلث الناتج المحلي، في تحفيز الاستهلاك الداخلي".

ويشير الى "أن  توسّع الاقتصاد النقدي بعد الأزمة المصرفية ساهم في تنشيط التجارة والخدمات، في ما يدعم الاستقرار النسبي في سعر الصرف الثقة والإنفاق المحلي. كذلك يُتوقع تحسّن طفيف في الصادرات الزراعية والصناعية، مدفوعاً بفتح أسواق جديدة كالعراق وسوريا".

ويرى "أن استمرار تدفق المساعدات الدولية والتمويل الإنساني، الذي يضخ نحو ملياري دولار سنوياً، يشكّل دعماً غير مباشر للطلب المحلي. لكن مع ذلك، يبقى هذا النمو هشّاً وموقتاً ما لم يُترجم بإصلاحات مالية ومصرفية تضع الاقتصاد على مسار مستدام".

"الواقع مختلف تماماً"...
في السنوات الأخيرة، شهد بعض القطاعات اللبنانية انتعاشاً محدوداً، خصوصاً في السياحة والصناعة، ما يثير النقاش حول مدى قدرة هذه التحسّنات على ترسيخ تعافٍ اقتصادي فعلي. ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، يبقى التساؤل عن استدامتها وسط تحديات هيكلية مستمرة.

وشهد القطاع الصناعي تحسّناً محدوداً بعد تراجعات عام 2024، مدفوعاً بارتفاع الصادرات تدريجاً. أمّا القطاع السياحي فكان الأفضل أداءً، مع زيادة ملحوظة في أعداد الزوّار بين 7 و9% مقارنةً بالسنة الماضية.

في هذا الإطار، يشير الخبير الاقتصادي لويس حبيقة في حديث الى "النهار" إلى أن "التحسّن الذي نراه في بعض القطاعات لا يمكن اعتباره طويل الأمد، لأن الاقتصاد اللبناني لايزال مرتبطاً بشكل مباشر بالوضعين السياسي والأمني".

ويوضح أنّ لبنان يعيش اليوم مرحلة أكثر تعقيداً من السابق، قائلاً: "صحيح أننا دائماً كنّا مرتبطين بالسياسة، لكن الوضع اليوم أصعب بكثير. أي تقدّم صغير أو كبير يمكن أن يتبخّر عند أول مشكلة سياسية أو أمنية".

ويؤكد  أنّ ما يُسجّل من مؤشرات إيجابية "خطوة مهمة، لكنها لا تعني استمرار التحسن"، مضيفاً أنّ "الاستثمارات الكبيرة والطويلة الأمد لم تبدأ بعد، رغم كل الحديث عنها، فالواقع مختلف تماماً".

ويلفت إلى ضرورة أن يبدأ الاستثمار من الداخل، قائلاً أن "على اللبنانيين في الداخل أولاً، ثم اللبنانيين في الخارج، أن يباشروا الاستثمار، وبعدهم يأتي دور العرب والأجانب. حتى الآن، المستثمرون الكبار ما زالوا متخوفين، رغم أن الفرص في لبنان غالباً ما تكون مربحة".

ويرى حبيقة أن رأس المال بطبيعته حذر. ويضيف: "رأس المال جبان، والناس لا تخاطر بما جمعته خلال سنوات في ظروف غير مستقرة. لذلك تبقى الحركة الحالية محدودة ولا يمكن تقييمها مبكراً".

ويتوقّع ألا تظهر الأرقام الحقيقية قبل عامَي 2026 و2027، مؤكداً أنّ الوقت لايزال مبكراً للحكم على المسار الاقتصادي. وآمل في أن يستمر التحسن وأن تأتي الاستثمارات، لكن كل شيء يبقى مرتبطاً بالوضع السياسي والأمني الذي يتغيّر كل يوم".

لبنان نحو التعافي؟
في ظل استمرار الانهيار المالي والأزمات المتعددة التي يشهدها لبنان منذ سنوات، يظل أداء الاقتصاد اللبناني محور اهتمام الخبراء والمراقبين. وتبقى التساؤلات حول قدرة الاقتصاد على الصمود وتحقيق نمو ملموس خلال عام 2025 حاضرة على طاولة التحليل.

وفي السياق، يقول حبيقة إنَّ عام 2025 قد يكون سنة نموّ للاقتصاد اللبناني، "شرط ألّا تشهد الفترة المتبقية من هذا العام أي مفاجآت سلبية"، لافتأً إلى أن "شهر كانون الأول/ ديسمبر، بما يتضمنه من موسم الميلاد ورأس السنة، يشكّل مرحلة أساسية جداً للاقتصاد، خصوصاً أن الاقتصاد اللبناني اليوم أصغر حجماً مما كان عليه قبل عام 2019".

 

ويشير إلى أن موسم الأعياد قادر على إعطاء دفع قوي للاقتصاد، لكنه يشدّد على أن عدم الاستقرار المتواصل يعرقل هذا الزخم.

 

ويُتابع: "للأسف، لا نرتاح كبلد. كل يوم نسمع عن حرب كبيرة أو صغيرة، وهذا يعوق قدرة الناس على التخطيط أو الاستثمار في موسم الميلاد أو تنظيم المناسبات والحفلات".

 

ويُشدد على أن "سيناريو عام 2025 حتى اللحظة يشير إلى نمو، لكن حجم هذا النمو يبقى مرتبطاً بما قد يحدث من الآن حتى نهاية السنة، لأن موسم الميلاد عنصر حاسم في الحركة الاقتصادية".

 

ويشرح أن "هذا التحسّن لا يمكن البناء عليه لسنوات مقبلة، لأن النشاط المرتقب في موسم الأعياد سيتركّز بشكل أساسي في القطاع السياحي، أي الفنادق والمطاعم وسواها، وليس في الصناعة أو الزراعة".

 

ويتوقف عند غياب الاهتمام بالقطاع الزراعي، معتبراً أنّ مؤتمرات عدة عُقدت في الأشهر الماضية تناولت الصناعة والعقارات والإعلام وحتى قطاع الأعراس، فيما بقي القطاع الزراعي مهمشاً، "كأن اللبنانيين غير مقتنعين بوجود أمل أو إمكانات نمو فعلية فيه، وهذا خطأ"، على حدّ قوله.

 

ويؤكد ضرورة توسيع التفكير وإيلاء الزراعة اهتماماً موازياً للقطاعات الأخرى، من دون أفضلية لأي قطاع على آخر، بل سعياً إلى تحقيق توازن بينها.

 

ويختم حبيقة بأن الأوضاع السياسية والأمنية والإدارية تبقى العامل الحاسم في تحديد وجهة الاقتصاد، قائلاً إنَّ عام 2025 سيشهد نمواً، ولكن "ليس نمواً كبيراً".

ويبقى الاقتصاد اللبناني في مفترق طرق بين الصمود أمام التحديات الراهنة والسعي نحو تعافٍ مستدام، بحيث تعكس المؤشرات الحالية قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات رغم هشاشتها وارتباطها بعوامل ظرفية.

ويظل تعزيز الاستقرار الأمني والسياسي والمالي وإعادة بناء القطاعات الإنتاجية والخدمية مفتاحاً لأي نمو مستدام. ومع استمرار هذه الجهود، يمكن للأداء الاقتصادي أن يتحول تدريجاً من حالة الصمود إلى مسار أكثر استقراراً وفاعلية.