الهشاشة العمرانية في لبنان يكشفها الزلزال: نكبة العشوائيات

"السّكن أو المَسكن هو كلُّ ما سكنت إليه واستأنستَ به". لعلّها باختصار الوظيفة البديهية لنمط العيش داخل صندوق اسمنتي يغلفك من كل الجهات. الزاوية التّي تركن إليها آمنًا من البرد والقيظ وخطر النوم في العراء، لكن هذه الوظيفة ما لبثت أن اضمحلت وفقدت ماهيتها أمام أول هزة أرضية محسوسة تضرب لبنان. إذ وباللحظات الأولى التّي شعروا فيها بالهزة الأرضية فجر الإثنين (عند السّاعة 3 و18 دقيقة)، هرع السّكان في مختلف المناطق اللبنانية لإخلاء منازلهم فورًا، متجمهرين في الشوارع العمومية وفي المساحات الفارغة أو بسيارتهم وبعضهم بقيّ حتّى ليل الأمس الخميس 9 شباط. ذلك بالرغم من اشتداد المنخفض الجوي الذي يضرب لبنان منذ أول الشهر الجاري. ولما كان ذعر السكان مقرونًا بالدرجة الأولى بالخوف من سقوط عماراتهم المهترئة وأبنيتهم القديمة فوق رؤوسهم، فإن هذا الذعر تفاقم في اليومين الأخيرين، بعد تدفق كم كبير من التحذيرات والصور والأخبار لتصدعات في المباني على امتداد الأراضي اللبنانية، وتشققات في الجدران وتخلخل في الإنشاءات الرئيسية، المشهد الذي أماط اللثام عن أزمة الهشاشة السكانية المتناسلة وشبه المنسية في هذا البلد المنكوب.

الهشاشة السّكانية
لطالما شكل العمران غير الرسمي محورًا مهمًا في سجل الأزمات البنيوية في لبنان، لنسبه المرتفعة، خصوصاً في المدن اللبنانية بصورة ملتبسة، إذ كان الحلّ المعقول والمتاح للفئات الأكثر هشاشة أو أصحاب المداخيل المحدودة يتمثّل في اللجوء إلى السّكن في الأحياء غير الرسمية أو المباني غير المنظمة أو ما يُشاع تسميته "بالعشوائيات". ولعل أبرز العوامل المسببة لظاهرة العشوائيات في المدن على امتداد الأراضي اللبنانية كان وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان بعد نكبة 1948 من جهة، والنزوح من الأرياف إلى المدن مطلع خمسينيات القرن الماضي نتيجة المركزية التّي سهلّت الطريق أمام نمو المدن على حساب تهميش الأرياف والأطراف، مرورًا بالحرب الأهلية والتهجير الذي لحقها مضافًا للتفلت القانوني المتزامن معها، وصولاً لويلات العدوان الإسرائيلي المتكرّر، ولاحقًا موجات اللجوء السوري بعد عام 2011.

وفي حين أشارت الجهات المولجة برصد أحوال السّكن والسكان في لبنان إلى نسبة المناطق المنظمة التّي لا تتجاوز 15 في المئة من المساحة الإجمالية للأراضي اللبنانية المؤهلة عمرانًا، فإن هذا الواقع أفرز طرديًا انتشار واسع لمساحات عمرانية غير منظمة في مختلف المحافظات والأقضية وفي الأرياف والأطراف كقرى وبلدات عكار، والجنوب، وإقليم الخروب، كذلك على امتداد منطقة بعلبك- الهرمل. وفي حين يعمد غالبية السّكان لتشييد منازلهم بصورة غير منظمة، وبالتالي لا تستوفي المعايير الموضوعة للسلامة العامة، باتت هذه الأبنية القديمة والمشيدة من دون تخطيط لمهندسين يشرفون على هيكلها الإنشائي وبناها التحتية منذ ما قبل ثمانينيات القرن الماضي بغالبيتها، عرضةً للتصدعات وآيلة للسقوط في معظم الأحيان، ومنتشرة بكثرة في مختلف المناطق اللبنانية، وعلى رأسها طرابلس وصيدا وبيروت. وجراء الهزة الأرضية شاع جوّ من التشاؤم والتخوف على هذه الأبنية، وقام عدد من المواطنين بنشر إفادتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، عن مجموعة كبيرة من المباني التّي تصدعت وتضررت بفعل الهزّة الأرضية وناشدوا دولتهم بتدارك الكارثة المحتملة وإجراء كشوفات على هذه المباني.

تقاعس الدولة عن واجباتها
وعقب الهزة الأرضية التّي ضربت لبنان فجر الإثنين دعا وزير الداخلية بسام المولوي جميع المواطنين إلى إخلاء المباني القديمة في حال وجود تصدعات كثيرة فيها، خوفًا من أي كارثة جديدة. ذلك من دون طرح خيارات لمأوى بديل في حال وقوع أي منها وفي عين العاصفة، بينما دعا البلديات لإرسال فرق هندسية لإجراء كشوفات على الأبنية الخطرة. وبالفعل لبت بلدية بيروت ومحافظها دعوة المولوي، إذ طلب المحافظ عبود، من المواطنين سكان العاصمة، الاتصال برقم معين للتبليغ في حالة رؤية تشققات أو تصدعات ظاهرة في الأبنية أو المنازل على إثر الهزة الأرضية التّي ضربت لبنان فجر الإثنين، ليصار إلى إرسال مهندسين وفنيين من مصلحة الهندسة في بلدية بيروت للكشف الفوري. وقد انتشرت هذه الدعوة بين المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي حين رصدت "المدن" عدّة حالات تواصلت مع الرقم المذكور ولم تتلق إجابة واضحة على استفساراتها، فضلاً عن المماطلة والتأجيل.

وفي هذا السّياق تُشير إحدى المواطنات التّي تقطن في كورنيش المزرعة في حديثها مع "المدن" إلى تجربتها مع البلدية قائلة: "فور اطلاعي على هذه الدعوة قمت بالاتصال على الرقم المذيل أسفل المنشور، مأخوذة بخوفي من تداعيات الهزة الأرضية على المبنى الذي يقطن فيه أهلي في كورنيش المزرعة، فالمبنى قديم ومهلهل ومتصدع منذ ما قبل الهزة، إذ بإمكانك رؤية التشققات في الجدران والعواميد، وانهيار السلالم فيه. لكني فوجئت بإجابة الشخص الذي ردّ على الاتصال إذ طلب مني صوراً، محددًا أن تكون التصدعات ناتجة عن الهزة الأرضية حصرًا، بالإضافة إلى رقم العقار، وأخبرني حرفيًا أنه من الممكن حدوث تأخيرات في كشف المهندسين على المبنى". وأضافت: "ليست المرة الأولى التّي اتصل فيها بالبلدية، إذ اتصلت سابقًا لطلب الكشف على البناية المهلهلة هذه، والتّي تشكل خطراً فعليّاً على سلامة سكانها في ظلّ إهمال أصحابها، فجاء الجواب: "على جميع سكان العمارة التوقيع على طلب الكشف". وبالتالي لم يتم الكشف عليها.

تصدع البنى التحتية والإنشاءات
وقد شهدت مختلف المناطق اللبنانية إخلاء قسرياً لمنازل وعمارات السّكان الآيلة للسقوط وبخاصة في طرابلس حيث قام عدد من الأهالي بإخلاء المباني القديمة خوفًا من الانهيار حتّى وفي الهزات الارتدادية. كما وتم توثيق تصدع وتشقق كبير في إحدى المباني في جبل محسن أدى إلى إخلائه، ذلك جراء إحدى الهزات الارتدادية. أما في بيروت فقد أشار أحد المواطنين في حديثه مع "المدن" أن القوى الأمنية والدفاع المدني قد نصحوا السكان في عدد من المباني الواقعة في كل من الشياح وعين الرمانة إخلاء منازلهم أو حمل صفارات إنذار معهم وفي بيوتهم في حال انهارت، لانتشالهم من تحت الركام. أما في صيدا فقد جرى الحديث عن تصدعات في إنشاءات عدد من المباني القديمة والأثرية. وعلى شاكلتها تم رصد تصدعات في بيوت وعمارات أثرية في مدينة بعلبك. ذلك بالإضافة لعدد من المدراس الرسمية.

يبرر مصدر مطلع على الشؤون العقارية وأحوال السكن في لبنان أن الأزمة بدأت في ظلّ تغاضي المسؤولين والمديرية العامة للتنظيم المدني عن تنظيم المناطق ذات العمران العشوائي، فضلاً عن تقصير الأجهزة الأمنية عن أداء واجباتها في هدم البناء المخالف، نتيجة ارتهانها تارةً لهرمية وبيروقراطية مقيتة، وفي غالبية الأحيان الرشاوى المربحة، بينما دعمت بعض الأحزاب السياسية المهيمنة المخالفين بغطاء منع الدولة من أداء واجباتها بالشكل المطلوب. ولذلك عمد السكان لبناء مساكنهم بطريقة غير منظمة في العقارات التّي يملكونها لكن لا تستوفي الشروط القانونية لاستحصال رخصة البناء، بسبب وجود مخالفات سابقة أو الشيوع في الملكية وغيرها من الأسباب، الأمر الذي دفع الكثير لتشيد مساكنهم من دون الأخذ بالاعتبار شروط السلامة العامة أو تدعيم الإنشاءات بالصورة اللازمة. وناهيك بالتحوّلات الديموغرافية والهجرات الداخلية بسبب الحرب التّي كان لها الأثر الأكبر في تغيير معالم ومقومات الطبيعة اللبنانية وتآكل الكثير من المساحات، وشيوع العشوائية العمرانية.

الخراب الذي يعم الأمكنة، الأشلاء المخضبة بالدم والغبار، الموت المباغت والعشوائي، النقمة على الماورائيات التّي تكتنز سخط الطبيعة ووحشيتها، وغيرها من التمثيلات الأولية لأي نكبة، مهدت الطريق أمام الصدمة التّي ولدت في المرتبة الأولى من احتكاك اللبنانيين المباشر مع ظاهرة طبيعية دنت منهم أكثر مما تسمح لها فيزيولوجيا النجاة. فترى جموع المواطنين في حيرة من أمرهم، يتخبطون في بحر من الصور والترجيحات، يتخوفون تارةً على بيوتهم المهلهلة إنشاءً في غالبيتها، وغاضبون من الطبيعة القاسية والدولة المتحاملة على حدٍ سواء. فيما تضمحل حقوق الإنسان البديهية بالعيش والسكن وتتهلهل لصالح الانحطاط الطبقي والتفقير الجماعي والنكبات المتتالية.