انتحار الشّباب في لبنان... حدثاً عابراً

كتب راغب جابر في ايلاف: كل شيء أصبح عادياً في لبنان. الجوع أمر عادي، التسول، النشل، التشليح، التشبيح، القتل البارد، سرقة السيارات، الاعتداء على القوى الأمنية والعسكرية، العنف الأسري... كلها أمور صارت عادية وتدخل في سياق الأخبار المستهلكة. قبلها صار حديث ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية مملاً ومعلوكاً، ما عاد يهم كثيراً إذا صار سعر كيلو الخبز خمسين ألف ليرة وتنكة البنزين ألفاً وخمسمئة ليرة وقاروة الغاز مليون ليرة... مضجر حديث الناس أينما اجتمعوا وكيفما اجتمعوا عن الدولار وسعر كرتونة البيض وليتر الزيت وعلبة اللبنة وكيلو البطاطا. اللحوم ومشتقاتها غائبة عن الجلسات اللبنانية.

عادية تمر أخبار انتحار شباب لبنانيين عبر وسائل الإعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كل يوم هناك صورة لشاب في عز شبابه يرثيه أهل أو أصدقاء بعدما وضع حداً لحياته، شنقاً أو بالرصاص أو بشق الشرايين .. ليست الوسيلة مهمة، الحياة هي المهمة وهي تذهب هباءً. تمر الحادثة في الإعلام مثلها مثل أي حادثة من الحوادث الكثيرة التي يشهدها البلد، لا تشكل حياة فرد مات انتحاراً مأساة لغير عائلته القريبة، كأنه مات في حادث سير أو زلّت به القدم من على مرتفع أو تسمم بغذاء فاسد. يذهب المحللون إلى البحث عن الأسباب النفسية للانتحار فيغوصون في النظريات والمقدمات والتأويلات، مستحضرين الكتب النفسية والتفاسير الدينية ليخلصوا إلى اعتبار الانتحار قتلاً محرماً للذات وطريقة غير سوية للهروب من الواقع وجبناً ويأساً وما شابه من كليشيهات يعرفها كل أهل الكرة الأرضية.

تتسارع وتيرة عد المنتحرين في لبنان، كل أسبوع منتحر، كل خمسة أيام، كل يومين، كل يوم. السنة الماضية أعلن انتحار 150 شخصاً، عدا الذين تكتمت عائلاتهم على انتحارهم، في الأسبوع المنصرم تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام صور خمسة شبان، مثل قلب الصباح كل واحد منهم، انتحروا. كل انتحار هو فاجعة، وفاجعة الفواجع أن هذا السيل لا يجد من يوقفه.

ماذا يقال عن رجل في عز شبابه وقوته وعنفوانه، وقد وقف عاجزاً عن تأمين الحليب لطفله والدواء لأهله والغذاء لنفسه وعائلته وعن الوفاء بديونه المتراكمة. ما أصعب ذل الحاجة ومد اليد إلى الناس، وما أقسى الحياة عندما تجبر الرجل على أن يهرب منها ومن ثقل أيامها. أن يصل شباب كحسين أو موسى أو إيلي أو علي... وغيرهم، إلى أن يهربوا من الحياة إلى الموت، فتلك كارثة الكوارث وقمة القهر في بلد يموت أهله كمداً.

ليس هؤلاء الشباب مسؤولين عن موتهم، لم يختاروا الموت طوعاً، لقد دفعوا إليه دفعاً. كانوا يحبون الحياة ويريدونها بشغف، ولا ينتحر محب للحياة. كانوا على شفير الهاوية وفي لحظة عاصفة هووا، لكن القاتل هو من أوصلهم إلى شفير الهاوية.

لم يكن هؤلاء مرضى نفسيين كما يسارع "المحللون"، هم فقط رجال مطعونون في كبريائهم خانهم في لحظة التعبير عن مأساتهم بطريقة عقلية. ربما كان عليهم أن يحملوا السيف.

فيما هؤلاء الشباب ينتحرون، وفيما غيرهم يسقط ميتاً بالسكتة القلبية في أحد المصارف وهو ينتظر ساعات في طابور الذل للحصول على راتبه، وفيما يموت آخرون في منازلهم لعجزهم عن التداوي والاستشفاء، وفيما تغمس عائلات مستورة الخبز اليابس بالماء وبعض السكر أو الزيت لتسكت جوع أطفالها، ما زالت السياسة في لبنان تدور في حلقة مفرغة من النكايات والعبث المجنون بمصير الناس. يتمترس السياسيون وراء أسماء ومواقع ومناصب زائلة لن تقدم ولن تؤخر. قاتل هذا القهر الذي تمارسه السياسة في لبنان على هذا الشعب، يدفع إلى الانتحار. إنها السادية التي لا تعرف حدوداً تمارس بأقسى صورها.

قد لا يتابع السياسيون أخباراً "تافهة" كأخبار انتحار الشباب، إنهم مشغولون بما هو أهم وأخطر، أو لعلهم يرسمون مستقبل البشرية، إذ يتخانقون على من يكون الرئيس ومن يكون الوزير ومن يكون المدير ومن يكون الحاكم ومن يكون الوصي ومن يكون ومن يكون.....

في فيلم "بابيون" الذي مثل النسخة الأصلية منه ستيف ماكوين قبل أكثر من خمسين عاماً ظل البطل يركض وراء حريته معرضاً حياته للموت مرات عديدة، وكاد يموت تحت التعذيب كل مرة، لم يفكر أبدا بالموت، فكر دائماً بالحياة حتى نالها منتصراً على سجانيه.