بعد أدائه المميّز صيفًا.. قطاع السياحة يلفظ آخر أنفاسه

يتصل لبنان تاريخياً بمشكلات المنطقة وأزماتها، ويندر أن تشتعل حرب أو توترات ذات طابع أمني أو سياسي أو حتى اجتماعي ولا يكون للبنان حصة فيها، وعليه، من المستحيل ألّا ينال "قرصاً" من توتر الساحة الفلسطينية وجنون حرب غزة، والذي تُرجم بما يحصل على الحدود الجنوبية، و"الكرّ والفرّ" اليومي قصفاً واعتداءات من الجيش الاسرائيلي. أمام هذا الواقع، دخل لبنان رسميا في قفص الازمة الاقتصادية التي بدأت تُطبِق أكثر على جميع قطاعاته، وخصوصا القطاع السياحي ذا الحساسية المفرطة وارتباط نموه أو ضموره بالاستقرار الامني والسياسي. وقد عكس التراجع الاخير في عدد الرحلات والركاب ذهابا وايابا حجم الازمة، بما ينذر بقوة بأن أعياد نهاية السنة والموسم الشتوي لن يكونا بخير، ولن يُستنسخ الموسم الصيفي الذي فاق التوقعات وأرسى استقرارا ماليا ونقديا لا تزال مفاعيله سارية حتى اليوم.

ولكن، على رغم الصورة السلبية التي تعكسها ظروف حرب غزة، إلا ان بقاء التوتر الامني والعسكري على الحدود الجنوبية تحت سقف قواعد الاشتباك المعمول بها وعدم تحوّلها الى حرب شاملة يبقي أملاً بتعويض خسارة الموسم ببعض المغتربين الذين يلتزمون سنويا المجيء الى لبنان، اللهمّ اذا بقي المطار خارج دائرة الخطر والتهديد، وانتظام الرحلات منه واليه.

هذا الواقع، أضاء عليه تقرير لوكالة التصنيف العالمية "ستاندرد آند بورز" (S&P Global Ratings) التي أشارت إلى أن الحرب المستمرة في قطاع غزة ستكون لها تداعيات على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحديدا على قطاع السياحة فيها. واعتبرت أن لبنان ومصر والأردن هي الدول الأكثر عرضة لتباطؤ النشاط السياحي بسبب قربها الجغرافي من إسرائيل وغزة، واحتمال توسّع الصراع عبر حدود هذه البلاد، وبسبب الاختلالات المالية الخارجية المرتفعة لهذه البلدان. ولفتت إلى أن عائدات السياحة شكلت نسبة 25.8% من عائدات الحساب الجاري الخارجي في لبنان، و20.6% من عائدات الحساب الجاري الخارجي في الأردن، و11.6% من عائدات الحساب الجاري الخارجي في مصر في العام 2022، وأن قطاع السياحة في هذه البلدان ينتج عنه إيرادات من العملات الأجنبية وفرص عمل. ووفق التحليل الذي أورده التقرير الاقتصادي الأسبوعي لمجموعة بنك بيبلوس Lebanon This Week، فإن لبنان يعتمد بشكل كبير على قطاع السياحة، ما يعرّض البلاد لتباطؤ الحركة الاقتصادية واختلالات خارجية في حال تراجع أعداد السياح الوافدين.

من جهته، أضاء الخبير الاقتصادي نسيب غبريل على أوضاع القطاع السياحي في لبنان في هذه الفترة تحديدا، مع الاخذ في الاعتبار ان القطاعات السياحية في أي دولة من دول العالم تتأثر بتدهور الاوضاع الامنية فيها، فكيف بالحرب المدمرة في غزة وما يحصل على الحدود اللبنانية جنوباً من اعتداءات من قِبل العدو الاسرائيلي؟

وأشار الى الاداء المتميز الذي شهده القطاع السياحي عام 2023 لغاية 7 تشرين الاول الماضي "حيث بدأنا نلاحظ ان الاندفاعة تراجعت بشكل كبير، علماً أن الموسم السياحي عادة بين آخر ايلول وآخر شهر من السنة يكون بطيئا نوعا ما". لكن موسم الاعياد كان يبدو واعداً بدليل الحجوزات لمجموعات أوروبية ومؤتمرات اقليمية وحفلات موسيقية، اضافة الى التحضير لعيدَي الميلاد ورأس السنة. وهذه الحركة فُرملت من دون شك، وفق غبريل، تأثراً بالأوضاع. ولكن رغم هذا الواقع، يصرّ غبريل على عدم الجنوح الى نعي القطاع السياحي في لبنان، لأن ثمة عوامل عدة تساعده على الاستمرارية.

من هذه العوامل يشير غبريل الى أنه في الاشهر الـتسعة من السنة الجارية قدِم الى لبنان 3 ملايين و600 ألف زائر وسائح، بما شكّل ارتفاعا بنحو 26% عن الفترة عينها من العام 2022.

كما أن الايرادات المباشرة للقطاع السياحي بلغت 5 مليارات و300 مليون دولار عام 2022، وفي حال اضفنا الايرادات غير المباشرة فإن الايرادات السياحية ستتجاوز هذا الرقم بكثير، ويتوقع أن تناهز الايرادات المباشرة للقطاع السياحي في العام 2023 ايرادات 2022 رغم ما يحصل حاليا والتباطؤ في الاشهر الاخيرة.

الى ذلك، تجدر الاشارة الى عامل مهم يتعلق بالديون المصرفية التي كانت مترتبة على المؤسسات السياحية وخصوصا الكبيرة منها، والتي سددت غالبيتها بالليرة اللبنانية على سعر صرف قديم أو بشيكات دولار بأقل من القيمة الحقيقية للقرض، وهذا الامر ساعد كل القطاع الخاص على تجاوز الازمة والنهوض منها، وتحديدا القطاع السياحي.

ويلفت غبريل الى أنه في فترة ما بعد آب، يبدأ التباطؤ السياحي. ومعلوم أن فترة تشرين الاول وكانون الاول هي فترة جامدة سياحيا، وتاليا لم يكن لبنان في فترة الذروة السياحية عندما تأزم الوضع الامني في غزة وعلى الحدود الجنوبية للبنان. أما بالنسبة الى الفنادق، فإن الإشغال كان منخفضا ولا يتجاوز الـ 45% في الاشهر الثمانية الاولى من السنة، وهذا لا يُعزى الى تراجع الحركة السياحية، بل لأن ثمة فنادق لا تزال مغلقة حتى اليوم بسبب انفجار مرفأ بيروت، والازمة الاقتصادية والمالية، تضاف اليها منافسة الـ Airbnb للفنادق، إذ تم استئجار آلاف الغرف والمنازل في فترة الصيف.

ومن العوامل الداعمة للقطاع السياحي، وفق ما يقول غبريل، هو أنه "بسبب اندلاع التوترات على الحدود اللبنانية فإن الكثير من الاشخاص استأجروا منازل وشاليهات في منتجعات سياحية". اضافة الى ذلك، "من الأهمية الاشارة الى السياحة الداخلية. صحيح أن ذروتها هي في فصل الصيف، ولكنها لا تتوقف في المواسم الاخرى لأنها تعتمد على المقيمين في لبنان. صحيح أنها تراجعت بفعل الاوضاع، لكنها لم تتوقف كليا". كذلك، لفت الى أن 62% من عدد الوافدين الى لبنان هذه السنة هم من المغتربين اللبنانيين، "وهذا الامر لمصلحة لبنان، لأنه ما ان تهدأ الاوضاع فإن هؤلاء لن يتأخروا في زيارة لبنان، بخلاف السياح الاجانب".

ولا ينسى غبريل الاشارة الى نقطة لها اهمية كبيرة تتعلق باستمرار ثبات سعر الصرف وايجابيته على القطاع، لافتا من جهة أخرى الى "عامل جنّب القطاع أعباء اضافية، ويتعلق بعدم اقرار موازنتي 2023 و2024 في مجلس النواب، خصوصا انهما تتضمنان ضرائب على القطاع"، معتبرا أن "ما حصل من توترات يجب أن يكون حافزا لالغاء الضرائب عن القطاع السياحي أقله هذه السنة".

وبالعودة الى وكالة "ستاندرد آند بورز" فقد أدرجت ثلاثة سيناريوات لتقييم تأثير التراجع المحتمل في عائدات السياحة على الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وكنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك تداعيات هذا التراجع على الاحتياطات من العملات الأجنبية لاقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما افترضت أن الحرب ستقتصر على إسرائيل وغزة، وأنها ستستمر ما بين 3 إلى 6 أشهر. ومع ذلك، اعتبرت أن تصعيد الحرب يمكن أن تكون له تداعيات جمّة على قطاع السياحة في لبنان، بسبب القرب الجغرافي للبلاد وبما أن بعض جوانب الصراع امتدّت عبر الحدود الجنوبية اللبنانية.

في السيناريو الأول، تشير تقديرات "ستاندرد آند بورز" إلى أن تراجع عائدات السياحة في لبنان بنسبة 10% سيؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بمقدار 500 مليون دولار، وأن الخسائر المباشرة للناتج الاقتصادي ستعادل 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، والاحتياطات بالعملات الأجنبية ستنخفض بنسبة 2%.

وفي السيناريو الثاني، قدّرت أن تراجع عائدات السياحة في لبنان بنسبة 30% سيؤدي إلى انخفاض حجم الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بمقدار 1.6 مليار دولار، وأن الخسائر المباشرة للناتج الاقتصادي ستعادل 9.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وان الاحتياطات بالعملات الأجنبية ستنخفض بنسبة 6%. اما في السيناريو الثالث، فقدّرت أن تراجع عائدات السياحة في لبنان بنسبة 70% سيؤدي إلى انخفاض حجم الناتج المحلي الاسمي بمقدار 3.7 مليارات دولار، وأن الخسائر المباشرة للناتج الاقتصادي ستعادل 23% من الناتج المحلي الإجمالي، وان الاحتياطات بالعملات الأجنبية ستنخفض بنسبة 14%.

الى ذلك، أشارت الوكالة إلى أن تداعيات انخفاض عائدات السياحة ستكون أكثر سلبية على الناتج الاقتصادي منه على الاحتياط بالعملات الأجنبية، نظرا إلى أن جزءًا كبيرًا من أصول مصرف لبنان بالعملات الأجنبية يشمل الذهب والاحتياط الإلزامي الذي لا يستطيع المصرف المركزي استخدامها. لذا، أعربت عن قلقها بشأن الانخفاض المحتمل في تدفقات العملات الأجنبية من السياحة في حال تصعيد الحرب في غزة، نظرًا الى شحّ العملات الأجنبية في السوق المحليّة، وتدهور سعر الصرف، والتضخّم المفرط، والأزمة السياسية. لكن الوكالة أشارت إلى أنه في الأشهر السبعة الأولى من العام 2023، ما يقارب 80% من الزوار الوافدين إلى لبنان كانوا لبنانيين غير مقيمين وسياحا عربا. لذلك، توقعت ان النسبة المرتفعة من الزوار التي تتكون من مغتربين لبنانيين ومن سياح من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستساعد القطاع السياحي على تجنب صدمة أكبر.