بعلبك الهرمل والنزوح السوري: أكثر من عقد من التحديات

لم يكن النزوح السوري إلى لبنان مجرد أزمة موقتة، بل تحول على مدى أكثر من عقد إلى اختبار لقدرة الدولة والمجتمع على التحمل. ففي محافظة بعلبك الهرمل، حيث الجغرافيا المفتوحة والحدود المتداخلة، تجلت هذه الأزمة بأوضح صورها، وآثارها العميقة على الخدمات العامة، سوق العمل، والأمن الاجتماعي، فضلًا عن التركيبة السكانية المحلية.

منذ عام 2011، دخل لبنان موجات نزوح متتالية، مع تقديرات رسمية وأممية حينها أشارت إلى دخول ما بين مليون ونصف مليون ومليوني نازح سوري، توزعوا على مختلف المناطق اللبنانية، وكانت بعلبك الهرمل الأكثر استقبالًا لهم. وفي ذروة الأزمة بين 2012 و 2016، شهدت المنطقة اكتظاظًا كبيرًا في بلدات حدودية مثل عرسال، حيث تجاوز عدد النازحين في المخيمات والبلدة أعداد السكان الأصليين، ما وضع البنية التحتية المحلية تحت ضغط غير مسبوق، من مدارس ومستشفيات إلى شبكات المياه والكهرباء، مع انعكاسات مباشرة على الأمن الاجتماعي والتوازن المجتمعي.

طوال هذه السنوات، ظل ملف النزوح عالقًا بين مقاربات إنسانية عاجزة وسياسات متناقضة، في ظل غياب أي خطة وطنية شاملة لمعالجة الأزمة. ومع الانهيار الاقتصادي اللبناني منذ 2019، ازدادت حدّة التوتر، وارتفعت كلفة النزوح على اللبنانيين، لتصبح بعلبك الهرمل مثالًا حيًا على أثر الأزمة على المجتمعات المضيفة.

ومع سقوط نظام بشار الأسد، بدأ العام الحالي يشهد تحوّلًا ملموسًا، مع تسجيل عودة واسعة للنازحين السوريين من لبنان إلى سوريا. ووفق التقديرات الرسمية والأممية فإنها أشارت إلى عودة أكثر من 370 ألف نازح خلال هذا العام، سواء عبر عودة طوعية منظمة أشرف عليها الأمن العام اللبناني، أو عبر عودة طبيعية قام بها النازحون بمحض إرادتهم. هذا التراجع انعكس بشكل واضح على البلدات الحدودية في بعلبك الهرمل، حيث خف الاكتظاظ، وتراجعت الضغوط على المدارس والخدمات الأساسية، وهدأت بعض التوترات الاجتماعية التي رافقت السنوات السابقة.

لعب الأمن العام اللبناني دورًا محوريًا في تنظيم العودة، من خلال تأمين قوافل العودة الطوعية وتسهيل الإجراءات اللوجستية بالتنسيق مع المنظمات الدولية، في حين جاءت العودة الطبيعية نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية متشابكة، بينها صعوبة الاستمرار في المخيمات، تراجع الدعم الدولي، وتغير الواقع السياسي في سوريا، حيث سقط نظام القمع والترهيب والبراميل المتفجرة.

غير أن هذا التحسن الجزئي لم يلغِ المفارقات المستمرة، ففي الوقت الذي عاد فيه النازحون الذين هربوا من النظام، دخل لبنان نازحون جدد، محسوبون على النظام السابق من أبناء الطائفتين الشيعية والعلوية الذين تأثروا بالتحولات الأمنية بعد سقوطه، ما خلق خليطًا غير معتاد من العائدين والجدد، وأعاد فتح النقاش حول تعريف "النازح" والتمييز بين الهارب والعائد.

هنا يبرز ملف الحدود كعامل حاسم، فالحدود اللبناني السورية، وخاصة في منطقة بعلبك الهرمل، لم تكن يومًا مجرد خط جغرافي، بل كانت مساحة رخوة للتنقل غير المنظم. واليوم، أصبح ضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية شرطًا أساسيًا لأي معالجة فعالة للنزوح، لضمان عدم تكرار الأزمات السابقة وحماية المجتمعات الحدودية التي تحملت العبء الأكبر.

ومع نهاية هذا العام، وبين انخفاض ملموس في أعداد النازحين وواقع حدودي لا يزال هشًا، يقف لبنان، وبعلبك الهرمل تحديدًا، أمام مفترق طرق. فالعودة الحالية قد تمثل فرصة حقيقية لتخفيف العبء عن الدولة والمجتمع المحلي، لكنها تبقى محطة انتقالية في مسار طويل ومعقد، يعيد طرح السؤال الأكبر: هل يشكّل هذا التراجع بداية معالجة فعلية لأحد أخطر ملفات لبنان الاجتماعية والإنسانية، أم أنه مجرد هدنة موقتة قبل اختبار جديد.