بلغوا سن الرشد... من يهتم بمستقبل أصحاب الاحتياجات الخاصة؟

هم أصحاب الهمم بلا شك لكنهم أيضًا أصحاب احتياجات خاصة، مختلفون يحتاجون إلى رعاية متخصصة تُراعي تفاصيل عيشهم اليومي وتعقيداته وتفاصيل قدراتهم الذهنية وإمكانياتهم الجسدية... في صغرهم، يبدو هذا الاختلاف محاطًا بالعناية الأسرية واحتضان مراكز الرعاية المتعددة، لكن التحدي الحقيقي يبدأ حين يكبرون وتتسع الفجوة بين التقديمات المطروحة والمتطلبات المتزايدة،  وعلى الأخص التأهيل المهني والتدريب على الاستقلالية في مرافق متخصصة تحفظ كرامتهم وتؤمّن لهم حياة مستقلة وآمنة. فمن يهتم بغدهم؟

في لبنان تكاد تنعدم المؤسسات القادرة على مواكبة هذا المسار الطويل. وكأن اصحاب الهمم سيبقون صغارًا يعيشون في كنف العائلة ترعاهم بعيدًا عن أي اندماج مجتمعي. المشكلة تتخطى لبنان، وعالميًا لم يبدأ الحديث عن البالغين من ذوي الاحتياجات الخاصة إلا منذ حوالى عقد ونيف، حيث بدأ الوعي والاهتمام بضرورة دمجهم في المدارس والجامعات وتأكيد حقهم على أن يتعلموا ويعملوا. فالصغار سيكبرون وعلى المجتمع ان يكون مستعدًا لاستقبالهم وأن يكونوا بدورهم جاهزين لدخول معتركه قدر إمكانياتهم.

من يهتم بغدهم؟

جمعية OpenMinds رفعت الصوت بحثًا عن حلول لم تسع إليها وحيدة بل مع مجموعة من الجمعيات الأخرى، التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة لا سيما البالغين منهم ومع الجامعات اللبنانية. وتحت عنوان let’s talk about tomorrow، وبأمل مشوب بكثير من الحذر طرح الموضوع الذي يؤرق الأهل ويشكل معضلة في لبنان: ما المستقبل الذي ينتظر هؤلاء الأشخاص حين يصبحون بالغين؟ ما هي الآفاق التي تفتح أمامهم لتأمين استقلاليتهم أو إعدادهم للانخراط في المجتمع وربما في سوق العمل؟ هل يمكن أن يستمر المجتمع في التعامل معهم كما لو أنهم سيبقون صغارًا إلى الأبد، ويحذف من اهتماماته إمكانياتهم وقدراتهم وأي فرصة لهم للاندماج والعمل والاستقلالية؟ مشكلة قلّما يتم تسليط الضوء عليها، إلى أن أتت هذه المبادرة لتفتح الأبواب نحو رؤية مستقبلية تجمع بين مختلف التقديمات المطروحة.

في حديث خاص لـ "نداء الوطن" تقول السيدة ريما فضول نائبة رئيسة جمعية OpenMinds أن الخدمات المتوافرة لهؤلاء الصبايا والشباب في لبنان، تكاد تكون غير متوافرة ومحصورة ببضعة برامج لا غير، تؤمن تأهيلًا أكاديميًا ومهنيًا لأصحاب الاحتياجات الخاصة ممن هم فوق الثامنة عشرة من عمرهم. بعض الجامعات أعدت برامج متخصصة أجريت عليها تعديلات لتلائم وتتكيف مع القدرات الذهنية لهؤلاء الشبان والشابات، تعلمهم مهارات يمكنهم استخدامها في حياتهم اليومية أو في العمل مثل الزراعة، الطهو، الضيافة وتصميم الغرافيك وغيرها. إضافة إلى محاولة تأمين عمل لهم بعد تخرجهم.

لكن إلى جانب تعلمهم لمهارات حياتية ومهنية، فإن الحاجة الثانية الملحة الذي يطلبها هؤلاء هي الاستقلالية، أي السكن في بيت مستقل حتى تحت إشراف أشخاص مختصين، لا سيما إن كان أهلهم غير قادرين على الاهتمام بهم. من هنا الحاجة إلى مجمع أو قرية نموذجية يكونون فيها مستقلين، وتشكل المرحلة الانتقالية بين حياة البيت في كنف الأسرة والحياة المهنية، إذا أمكن، أو حياة البالغين بحيث يتعلمون مهارات يطبقونها ضمن هذا المجمع أو خارجه في المجتمع الأوسع، ثم يعودون إلى "بيتهم". على غرار تجربة Camphill Newtoon Dee في إسكتلندا و First Place في ولاية أريزونا الأميركية.

قليلة بل نادرة هي المراكز في لبنان التي تؤمن هذه الازدواجية، أي التدريب المهني أو الأكاديمي من جهة، والإقامة من جهة أخرى، ولا يمكنها استيعاب كل الأعداد. بعض المؤسسات مثل مؤسسة step together تعد طلابها ليكونوا منتجين وتعلمهم مهارات مهنية حتى إن بعض من تخرجوا باتوا يعملون في "كوفي شوب" تابع لأحد المستشفيات لكن قسم الإقامة فيه محدود جداً .

الحلقة المفقودة بين رعاية الأهل والخروج إلى المجتمع

مشكلة هذا البرنامج المزدوج، وفق ما تقول السيدة فضول، تكمن في كلفته العالية، في ظلّ غياب شبه تام للمساعدات الرسمية من قبل الوزارات المختصة. فالبرنامج اللائق لمجمّع نموذجي لا شكّ أن كلفته كبيرة، في حين تقدّم وزارة الشؤون الاجتماعية، على سبيل المثال، للجمعيات المرتبطة معها بعقود رعاية، مبلغًا يوميًّا ضئيلًا جدًّا عن كل فرد من ذوي الاحتياجات الخاصة. كما أنّ الوزارة متعثّرة بالدفع نتيجة الأزمة المالية الكبرى التي مرّ بها لبنان. وتُضاف إلى ذلك جمعيات عديدة لم توقّع عقودًا مع وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا تتلقّى أي مساعدات منها. العهد الجديد، بحسب فضول، يحاول المساعدة ويقدّم كل الدعم المعنوي، إلا أنّ التمويل يبقى صعبًا، إذ إنّ مراكز الرعاية ليست من الأولويات في بلد تُعاني فيه كل القطاعات.

تبقى المبادرات المدنية هي التي تسعى لتقديم الحلول لا سيما بالنسبة لإنشاء مركز متخصص لإقامة هؤلاء الشباب. المشروع بدأت فكرته في العام 2017 مع تقديم أرض له، لكن دراسات الجدوى بينت أنه بحاجة إلى تمويل كبير، وحين بدأ جمع التبرعات له طرأت أزمة 2019 لتليها الحروب التي جعلت الفكرة تكاد تصبح مستحيلة، وبات الاهتمام منصبًا على تنفيذ مشروع أصغر لكنه يحتاج بدوره إلى تمويل كبير، حتى يؤمن الاستدامة ويتمكن من الاستمرار بمساهمات من الأهل. "فكرنا"، تقول فضول، أنه "بمساهمة 20 عائلة من العائلات المقتدرة وبالتعاون مع مؤسسات تملك الخبرة في مجال التأهيل والإقامة، يمكن للمشروع أن يبصر النور. من هنا جاء السعي لجمع الأهل والمؤسسات والجامعات في مؤتمر لمعرفة ماذا تستطيع كل جهة أن تقدم وما هي نقاط القوة في برامجها والتحديات التي تواجهها".

يد واحدة لا تصفق وبالتعاون قوة، فكيف إذا اجتمعت هذه الأيادي لتكون قوة فاعلة في خدمة الفئات الأضعف في المجتمع؟ ثمة تجارب ناجحة في التعامل مع أصحاب الاحتياجات الخاصة الذين تخطوا مرحلة الطفولة، وتقدم كل تجربة منها مقاربة مختلفة، فإحدى الجمعيات مثلاً برعت في تنظيم رحلات في داخل لبنان لهؤلاء الشباب ليكونوا خارج إطار حياتهم اليومية، فيما جمعية أخرى برعت في تعليمهم مهارات يدوية ومهن يمكنهم من خلالها إيجاد عمل، وقد خرّجت مؤخرًا DJ بات قادرًا على دخول سوق العمل، وأخرى وضعت إمكانياتها لتدربهم على فن الطهو وإن لم يكن اهتمامها الأساسي رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.

برامج جامعية مختصة

أما بالنسبة للجامعات فالأمور إلى تطور وحتى الآن ثمة جامعات أربع في لبنان قد وضعت برامج خاصة، وهي جامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية وجامعة سيدة اللويزة وجامعة AUST، وتقدم الجامعات برنامجًا أكاديميًا ومهنيًا يختلف بين جامعة وأخرى. برامج من سنتين أو ثلاث تعلمهم كيف يستخدمون المال والعمل في الأرض والضيافة والرسم والفنون، كما تدربهم على الاستقلالية والاهتمام بأنفسهم مع توجيههم إلى مهنة يمكنهم القيام بها، كما تساعدهم في تفعيل مهارات التواصل عندهم ليتمكنوا من الاندماج مع الخارج وتكون الرابط بين التعليم الأكاديمي والحياة العملية. كل الجامعات في لبنان اليوم تسعى للدمج بحيث باتت البرامج الخاصة من شروط الحصول على الاعتراف العالمي، وكلما كثرت البرامج الجامعية كلما زادت الفرص بأن يجد الأهل الفرص المناسبة لإمكانيات أبنائهم. أهمية هذه البرامج المتخصصة أن الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة يتواجدون مع الطلاب الآخرين، ما يؤمن لهم نوعًا من الاندماج يجعلهم يتفاعلون مع سواهم ويتعلمون منهم ما يهيئهم في ما بعد للاندماج في المجتمع الأكبر، كما يتفاعل الطلاب الآخرون بدورهم مع ذوي الاحتياجات الخاصة فتصبح اللعبة لعبة عطاء وأخذ متبادل تعود بالفائدة على الجميع.

ورغم إقرار الجميع بصعوبة إيجاد فرص عمل لهؤلاء الخريجين المختلفين، إلا أن الدراسات النفسية والاجتماعية بيّنت أن ذوي الاحتياجات الخاصة يملكون الكثير من نقاط القوة التي يمكن نبشها وتنميتها، وهم قادرون على العمل في مجالات معينة متى نالوا التدريب المهني المناسب، لا بل هم جديون في عملهم لا يكذبون أو يراوغون ومخلصون جدًا للمكان الذي يعملون فيه.

لا شك أن الإعاقة درجات مختلفة ولكن لا بد من البدء بالدرجات التي تستطيع العطاء، تقول فضول. حتى الأقل قدرة يمكن أن تتغير يومياتهم وواقعهم حين تصبح حياتهم ممتلئة تحمل هدفًا بدل أن تكون محطة فارغة.

تجربة ناجحة لملء الفجوة بين الدراسة والعمل

بالتعاون بين جامعة ليبسكومب الأميركية ومركز SKILD وجامعة سيدة اللويزة ولد برنامج IDEAL ليكون، كما تشرح هبة الجمل المربية التقويمية ومديرة مركز سكيلد، برنامجًا اندماجيًا في قلب الجامعة يؤمن دروسًا للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة مع سواهم من طلاب الجامعة، ودروسًا أخرى خاصة بهم ويجمع بين الناحية الأكاديمية والتأهيل المهني عبر فترات تدريبية داخل الجامعة وخارجها، وبين المهارات الحياتية والمهارات الاجتماعية.

مدة البرنامج سنتان، وهو كغيره من البرامج الجامعية الخاصة، يستقبل الطلاب الذين سبق لهم التعلّم في مدرسة متخصصة، والقادرين على القراءة والكتابة، واستعمال التقنيات الحديثة، فضلًا عن قدرتهم على التواجد في الصف. وحتى الآن، خرّج البرنامج ثلاث دفعات، ويعمل نحو 60 % من خريجيه في سوق العمل. وتقول هبة الجمل: "بدأنا بالتعاون مع شركتين، والآن نتعاون مع 13 شركة، ما يثبت وجود وعي مجتمعي متزايد بضرورة دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع".

لا تنكر الجمل أن الطريق ليس معبداً بالورود وأن ثمة أشخاص لا ينجحون في الاندماج. ورغم أن 6 من أصل 10 يستطيعون التوظف إلا أن الأمر يتطلب جهودًا كبيرة واتصالات كثيرة وتوعية مستمرة، والفجوة لا تزال كبيرة بين الدراسة والاندماج المهني. والمشكلة تبقى في ظروف لبنان التي تقسو على ذوي الاحتياجات الخاصة وأهلهم أكثر من سواهم.

وفي الختام تقول الجمل إن أصحاب الاحتياجات الخاصة يجب أن يبقوا منشغلين ومنتجين حتى لا تتراجع قدراتهم إلى الوراء، وكلما تم الاهتمام بهؤلاء صغارًا كلما ازدادت فرصهم بأن يكبروا ويصبحوا مستقلين ويجدوا مكانًا لهم في المستقبل.