المصدر: النهار
الكاتب: منال شعيا
الأحد 28 كانون الاول 2025 11:27:56
التآكل الحاد في القدرة الشرائية، الهجرة كظاهرة استنزاف ديموغرافي، قطاع تعليمي يعاني فجوات هائلة، النقص في التغطية الصحية الشاملة: هي ابرز التحديات الاجتماعية التي توجع اللبنانيين وتنتقل معهم من سنة الى اخرى.
بعيدا عن مسألة حصرية السلاح وفرض الاستقرار الامني وبسط سلطة الدولة كاملة على كل التراب اللبناني، يتراجع الهمّ المعيشي – الاجتماعي عن دائرة الضوء، ويخفت الاهتمام الرسمي.
فما هي ابرز الاستحقاقات الداهمة، واي آلية ممكنة للحلول؟
لا شك ان "الواقع الاجتماعي اللبناني يشهد في عامه الجديد حالة من التفكك البنيوي التي تتجاوز مفهوم الأزمة التقليدية لتصل إلى إعادة صياغة قسرية لشكل الحياة اليومية"، بهذه الخلاصة يخرج عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الخبير الاقتصادي الدكتور بيار خوري ليعتبر ان "الضغوط الاقتصادية تندمج مع الانهيار المؤسساتي لتخلق مشهدا شديد التعقيد".
تبدأ هذه المعاناة من التآكل الحاد في القدرة الشرائية، وفق خوري "هذا التآكل لم يعد يهدد الرفاهية فحسب، بل ضرب جوهر الأمن الغذائي والمعيشي للأسر، ما أدى إلى مزيد من ضمور الطبقة الوسطى التقليدية وانقسام المجتمع إلى ثنائية حادة بين قلّة تملك الموارد بالعملات الصعبة وغالبية تصارع العوز المتعدد الأبعاد. هذا الانسداد المالي انعكس مباشرة على جودة الحياة عبر خصخصة قسرية للخدمات الأساسية، إذ بات اللبناني مضطراً لتأمين بدائل مكلفة للكهرباء والمياه والرعاية الصحية بعيداً عن مؤسسات الدولة المتهالكة، ما حوّل الحقوق الإنسانية البديهية امتيازات طبقية لا تنالها إلا فئة محدودة".
عوائق وحلول
في ظل هذا التردي، لا تتوقف التحديات هنا، بل اخطرها هي الهجرة. يرى خوري ان " خطورة الهجرة تبرز كظاهرة استنزاف ديموغرافي تخطت دوافعها الطموح المهني لتصبح هروباً جماعياً يبحث عن الأمان، ما أدى إلى "نزيف أدمغة" حاد شمل الكوادر الطبية والتعليمية، تاركاً وراءه مجتمعاً يميل نحو الشيخوخة ويفتقد الحيوية الشبابية القادرة على التغيير".
واذ يلفت الى ان "هذا الفراغ الاجتماعي والسياسي عمّق بدوره الانقسامات الطائفية والمناطقية، فيندفع الأفراد، تحت وطأة الحاجة وغياب الدولة، نحو الاحتماء بالهويات الضيقة والمنظومات الزبائنية"، يؤكد ان " هذا الامر يعزّز حالة التشرذم ويعوّق أي مشروع وطني جامع للإصلاح".
ولعلّ خطورة العوائق الاجتماعية هي ان اثرها لا يتوقف عند الحاضر بل يمتد نحو المستقبل، وهذا بذاته اكبر تهديد مجتمعي.
يعلق خوري: " هذا التهديد يتمثل بالقطاع التعليمي الذي يعاني فجوات هائلة في التمويل والموارد، ما يضعف فرص الشباب في الحصول على تأهيل علمي لائق ويؤسس لعدم تكافؤ فرص مزمن".
كل هذا المشهد القاتم يتوّج بضغط نفسي جماعي غير مسبوق، اذ يعيش اللبنانيون حالة من الصدمة المستمرة والقلق الوجودي حيال المستقبل، فتزيد الاضطرابات النفسية ويتراجع الشعور بالأمان الجماعي، وان تداخل هذه العوامل مع بعضها يخلق بيئة اجتماعية مضطربة.
يطرح خوري آلية للحلول لمواجهة هذا التفكك الاجتماعي الشامل، يقول: " لا بد من صياغة سياسات عامة تنطلق من مبدأ العدالة الاجتماعية كمدخل للاستقرار، بحيث لا تكتفي الدولة بدور المراقب للانهيار، بل تتحول فاعلا حاميا عبر وضع مخطط توجيهي يرّكز على إعادة هيكلة القطاع العام وربطه بشبكة امان اجتماعية وطنية وشاملة لا تمر عبر القنوات الزبائنية أو الطائفية".
ويشدد على ان "جوهر السياسات المطلوبة يكمن في الانتقال من منطق الإغاثة الموقتة إلى منطق الحماية المستدامة، عبر توحيد الصناديق الضامنة وربطها بنظام تغطية صحية شامل يضمن كرامة المواطن بغض النظر عن انتمائه الوظيفي أو الطبقي، بالتوازي مع استثمار سيادي في التعليم الرسمي لردم الهوة بين الفئات الاجتماعية وحماية الأجيال من الجهل والتبعية".
هي خريطة حلول متكاملة تستوجب ايضا، وفق خوري، "تبن سياسات ضريبية تصاعدية تعيد توزيع الأعباء بشكل عادل وتوجيه الموارد المتاحة نحو تحفيز القطاعات الإنتاجية التي تخلق فرص عمل محلية للحد من نزيف الهجرة، مع ضرورة إرساء منظومة قضائية مستقلة تحمي الحقوق الاقتصادية وتكافح الفساد البنيوي الذي استنزف الثروات".
وبعد، ان نجاح هذه السياسات مرهون بالقدرة على استعادة "الثقة المؤسساتية"، يختم خوري: " هي عملية تتطلب شفافية مطلقة في إدارة الموارد العامة وإشراك المجتمع والخبراء في صنع القرار، لضمان تحويل الدولة من مجرد هيكل إداري إلى مظلة قانونية واجتماعية تحمي الفرد وتصون السلم الأهلي من الانفجار تحت وطأة الجوع واليأس".