المصدر: المدن
الكاتب: غادة حلاوي
الخميس 4 كانون الاول 2025 09:22:13
بعد ساعات على زيارة البابا، بدأ لبنان تنفيذ الأجندة المتّفق عليها أميركياً، بغطاء منحته أرفع مرجعية مسيحية، هي البابا لاوون الرابع عشر، استند إليها رئيس الجمهورية جوزاف عون ليعلن خطوته بإضافة تمثيل سياسي على وفد لبنان في الميكانيزم. رسميّاً، دخل لبنان في مرحلة التفاوض السياسي مع إسرائيل، ولم يعد هناك من التباس، بغض النظر عن تبريرات من هنا أو هناك ومحاولات تنصّل، ولا حتى تبرير بأنه تفاوض غير سياسي. فالشخصية التي اختارها رئيس الجمهورية، أي السفير سيمون كرم، هي شخصية اختبرت العمل السياسي والدبلوماسي، وتربطها علاقات وثيقة بالأميركيين، وقد تمّ اختياره بطلب من الأميركيين مباشرة.
تمت التسمية بعد توافق مع الثنائي. ما ورد في بيان رئاسة الجمهورية كان واقعياً، لاسيّما من ناحية التنسيق مع رئيس مجلس النواب، خصوصاً أنّ زيارة مستشار رئيس الجمهورية العميد أندريه رحّال إلى عين التينة تلت البيان – الإعلان، وهي زيارة وضعت الأمور في نصابها، حيث تمّ استعراض ظروف تسمية كرم الذي سبق وورد اسمه في عداد اللائحة التي أُعدّت بالتشاور للاختيار من بينها.
اعتراض الثنائي وموقف بعبدا
أمّا حزب الله، فالمتعارف عليه أنّه، ومن حيث المبدأ، لا يمكن أن يعلن موافقته على خطوة كهذه، وهو الذي يرفض أيّ نوع من أنواع الاعتراف والتواصل. وقد أبلغ حزب الله بعبدا اعتراضه على كونه لم يكن على علم بالاسم، كما استوضح بري مجدداً حول أسباب اختيار كرم دون غيره.
بالنسبة لحزب الله، السياق كان متوقعاً، وإن لم يُهَيّئ الأجواء لمحيطه بعد. يتمنى حزب الله لو كان لبنان تمكّن من نيل خطوة بالمقابل، كوقف العدوان على أقل تقدير. فكيف يمكن للبنان أن يقدّم الخطوة تلو الأخرى، من حصرية السلاح في مجلس الوزراء إلى إقرار ورقة توم باراك وصولاً إلى تعيين مفاوض مدني في عداد الميكانيزم؟ خطوات تفاوضية يقدّمها لبنان لإسرائيل من دون مقابل، فماذا لو كان المطلوب المزيد لاحقاً؟
دخلت الخطوة حيّز التشاور في دوائر حزب الله، الذي آثر عدم التعليق مباشرة بانتظار الموقف الرسمي لأمينه العام، وإن كان يعترض على اسم كرم بوصفه معادياً للمقاومة في العمق. لكن جواب بعبدا كان أنّ الموقف النهائي في التفاوض يقرّره رئيس الجمهورية، وأنّ لبنان اختار توسيع تمثيله في الميكانيزم في مواجهة تهديد إسرائيل باجتياح بري وعدوان قاسٍ على لبنان، وبعد رفضٍ إسرائيلي – أميركي وقف العدوان كشرط للتفاوض وربطِ وقفه بنتائج المفاوضات، وهو ما أبلغته أورتاغوس صراحة للبنان.
وطالما أنّ حزب الله سبق وفوّض الأمر للأخ الأكبر، أي الرئيس بري، فالأخير كان على علم حسب بيان بعبدا. وإذا كان حزب الله قد أعلن في بيان سابق رفضه للتفاوض السياسي، فهو أعلن في البيان ذاته وقوفه خلف الدولة في ما تراه مناسباً. فما المانع اليوم أن يقف خلفها في المفاوضات؟ ويكون أمام تجربة مماثلة للترسيم البحري، فإن فشلت المفاوضات، ينسحب لبنان ويواجه الجميع ما ستقدم عليه إسرائيل.
جملة من الوقائع كانت قد سبقت خطوة الدخول في التفاوض السياسي مع إسرائيل، ليكون عنوان المرحلة المقبلة: انتهى دور السلاح وبدأ دور المفاوضات. من زيارة البابا، وقبلها زيارة علي حسن خليل إلى إيران، إلى الرسالة التي سلّمها نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الشيخ علي الخطيب إلى البابا، إلى بيان رئيس الجمهورية وما أبلغته أورتاغوس للرئيس عون، وصولاً إلى ما قاله السفير ميشال عيسى مؤخراً عن مستقبل زاهر للبنان.
الوقائع التي انتهت إلى تفاوض سياسي
بداية تفاوضٍ سياسي مهّد لها المعاون السياسي للرئيس بري، النائب علي حسن خليل، في مقابلته الأخيرة مع الزميل حسن الدرّ بصريح العبارة: "لا أحد يتوهّم أنه لاعب كبير وسيفرض ما سيحصل في المنطقة. نحن مكوّن من المكوّنات، وفي كل الدنيا قد يبقى موضوع العداء لإسرائيل مسألة مبدئية بالنسبة لنا، لكن كيف تحصل الوقائع على الأرض؟" مستعيداً تلك المقولة الشهيرة: "ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب". كلام له دلالاته بأنّ الثنائي لم يجد أمامه ما يواجه به مسار المفاوضات المنطلق في المنطقة بقوة دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب. قطار يصعب صدّه وسط بيئة لا حول لها ولا قوة سوى الصبر على عدوان زاد عمره على السنة ولا يزال يرزح تحت عبئه، في وقت لم يحمل موفد بري جواباً إيرانياً شافياً حول الإعمار وإعادة الناس إلى منازلهم.
هي المرة الأولى التي يدخل فيها لبنان مسار التفاوض السياسي بعد اتفاق 17 أيار (خلدة – كريات شمونا). يومها تمثّل لبنان بالسفير أنطوان فتال. فتال الأمس هو سيمون كرم اليوم. سفيران اختبرا التجربة ذاتها بتفاوض سياسي لا يمكن حصره بتفاوض تقني، إذ لا سفير يملك إمكانية التفاوض تقنياً. لكن، وبغض النظر عن المسميّات، فإنّ لبنان دخل عصراً جديداً، وأي كلام آخر يكون للاستهلاك المحلي أو لحفظ ماء الوجه أمام الجمهور.
يُسجَّل لرئيس الجمهورية جرأته في اتخاذ الخطوة. لو تصرّف الرئيس الماروني بأنانية لكان سلّم ملف المفاوضات للشيعة طالباً منهم اتخاذ الموقف وتطبيقه، لكنه أخذ المبادرة ولو على حساب عهده. خطوة للداخل، وخطوة يتقدّم بها إلى الخارج لحماية لبنان من الخطر الإسرائيلي. أتى تعيين كرم بمثابة محاولة استيعابية من رئيس الجمهورية ووضع حدّ للتهويل الإسرائيلي.
بالاتفاق مع بري، تمّ التوافق على مبدأ تمثيل شخصية مدنية في عداد وفد لبنان في الميكانيزم، شرط ألا يمثّل أي جهة رسمية في الدولة ولا يكون وزيراً في الحكومة، وفق ما سبق وطلبه الموفد الأميركي توم باراك وخلفه مورغان أورتاغوس.
طلب الأميركيّ، فلبّى رئيس الجمهورية كي لا تُترك حجّة لإسرائيل لإكمال عدوانها على لبنان. أورتاغوس التي نقلت قلق إسرائيل من تعاظم قوة حزب الله مجدداً، وأنذرته بعدوان موسّع سيشمل مواقع تابعة للدولة هذه المرّة، هي نفسها التي أبلغته موافقة إسرائيل على سيمون كرم.
بغض النظر عن الموقف المنتظر من حزب الله وما سيقوله ـ وهو سيكون متماهياً مع بيئته والواقع على الأرض ـ يدرك الثنائي الشيعي، قبل عون، أنّ الواقع اليوم بات مختلفاً وأنّ الوضع بالغ التعقيد، وأنّ إسرائيل رفضت شرط لبنان وقف العدوان قبل التفاوض.
رفض التفاوض معناه تحمّل المسؤولية عمّا سيجري، وهو بالكاد انتهى من وزر تحمّله مسؤولية فتح جبهة الإسناد، ومن غير الممكن خوض أي حرب جديدة مع إسرائيل. إن أرادها حزب الله ــ وهذا مستبعد ــ فلن يرضاها شريكه في الثنائية نبيه بري الذي يحاصره مشهد الجنوب المدمّر وقد أنهكه أهله.
تغيير موازين القوى
وبالواقعية ذاتها، فإن تغيّر موازين القوى في المنطقة يفرض على حزب الله المهادنة وتقطيع الوقت، وهو يدرك أنّ الأمور غير مغلقة دبلوماسياً، وهناك حراك بين الرئاسة الأولى والأميركيين لتطويق عدوان إسرائيلي محتمل، يمكن أن يكون تهويلاً، والأرجح ألا يكون كذلك مع وجود بنيامين نتنياهو رئيساً لحكومة إسرائيل. يقطّع حزب الله الوقت بانتظار الانتخابات الإسرائيلية المحتملة والمبكرة، والانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. الأمور تتغيّر، وفدٌ من حزب الله يعتزم زيارة تركيا أو زارها بالفعل، وهو يسعى لتحسين العلاقة مع سوريا وإعادة تجميع نقاط قوته. وتبقى فكرة أساسية: الثنائي غير مستعدّ لفتح جبهة مع رئيس الجمهورية، وهو عرّاب انتخابه. ومن مرّر للحكومة قرارين رغم اعتراضٍ شكلي، قادر على تمرير ثالث.
ساعات عصيبة يُنتظر خلالها الموقف النهائي للثنائي حيال تسمية كرم. هل يتحمّل الثنائي تحويل تهديد إسرائيل إلى واقع؟ وما بديلُه عن تعيين كرم أو غيره؟ فالأسماء ليست مهمّة. طالما أنّ المعني الأول والضمانة الوحيدة هو رئيس الجمهورية.