تعافي مرفأ بيروت لا يمحو جريمة تفجيره: الإهراءات تشهد

تحوَّلَ الرابع من آب إلى تاريخ تُستعاد فيه سنوياً ذكرى جريمة متشعّبة الأطراف. فقبل 5 سنوات، فُجِّرَ العنبر رقم 12 المحاذي لإهراءات القمح والحبوب في مرفأ بيروت الذي يمثّل بوابة اقتصادية حيوية للبنان، وتشابكت المعلومات والمعطيات حول سبب وطريقة التفجير التي ذهب ضحيّتها نحو 200 قتيل و6000 جريح فضلاً عن الخسائر بالممتلكات. ومن حينها إلى الآن، يواصل المرفأ استعادة عافيته الاقتصادية، لكن ذلك لا يُسعف باستعادة ما خسره لبنان واللبنانيون لحظة التفجير. فعلى الأقل، لا تزال الحقيقة مخفية، والمتورّطون خارج قضبان السجن، والإهراءات عاجزة عن التخزين، لكنّها رغم انكسارها، تبقى شاهدة على الجريمة.

أضرار هائلة

انفجرت آلاف الأطنان من مادة نيترات الأمونيوم كانت مخزّنة في العنبر المشؤوم. تعدّدت التقديرات حول السبب، بين نيران "معلِّم اللحام" الذي كان يصلح بوّابة العنبر، وصولاً إلى قصف العنبر بصاروخ إسرائيلي. وتعدّدت روايات وصول النيترات، بين "صدفة" بقاء الباخرة الناقلة في المرفأ وتعمّد إبقائها لتبرير الاحتفاظ بالنيترات. وكذلك، تنوّعت سيناريوهات أسباب الاحتفاظ بها، بين نيّة استعمالها في لبنان أو إخراجها تباعاً إلى سوريا. وبعيداً من الأسباب والمسؤوليات، تبقى النتيجة جريمةُ عصرٍ لم يشهدها الكوكب منذ تفجير قنبلتيّ هيروشيما وناكازاكي النوويّتين. وعلى عجلٍ، قَدَّرَ البنك الدولي في نهاية آب 2020، قيمة الأضرار والخسائر الاقتصادية بما يتراوح بين 6.7 و8.1 مليارات دولار. وعلى مستوى المرفأ بشكل حصريّ، تراجعت حركته حينها بشكل مباشر بنسبة تزيد عن 50 بالمئة، وكان من المرجّح أن تنعدم الحركة لكن "نجاة 3 رافعات من أصل 16 رافعة في محطّة الحاويات، سمح باستمرار استقبال وتحميل المستوعبات، وبالتالي تعزيز توفير البضائع في السوق، خصوصاً المواد الغذائية"، وفق ما أكّده النائب الأول لرئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة البحرية، إيلي زخور، الذي أشار في حديث لـ"المدن" إلى أنّ "إصلاح 10 رافعات لاحقاً، ساهم في استئناف العمل بعد أسبوع من التفجير، لكنّه لم يحل الأزمة كلياً".

قيمة الخسائر كانت هائلة، والدولة لا تملك المال الكافي للتعويض ولإعادة تنشيط العمل في المرفأ، فكان الحلّ الأنسب والأسرع، تلزيم العمل في المرفأ لشركة خاصة. وفي العام 2022، تمّ تلزيم العمل لشركة CMA CGM الفرنسية، ضمن عقد لمدّة 10 سنوات. على ان يرتكز عملها على 4 محاور، هي تحديث البنية التحتية للمرفأ وتجديد المعدات، إنشاء مرفق للصيانة وتخزين قطع الغيار، تحقيق التحوّل الرقمي لمحطة الحاويات، وتحسين الأداء البيئي عبر شراء معدات صديقة للبيئة.

مسار التعافي

ما أصاب المرفأ لم يكن حدثاً عرضياً يمكن تجاوزه بسهولة، ومع ذلك، حافظَ المرفأ على وتير عمر متسارعة ساهمت في زيادة الطاقة التشغيلية لمحطة الحاويات "لتعمل اليوم بنسبة 100 بالمئة من طاقتها". وكترجمة مادية لاستعادة النشاط "ارتفعت عائدات المرفأ تدريجياً منذ العام 2021 من نحو 5 ملايين دولار إلى 10 ملايين دولار، وصولاً إلى أكثر من 150 مليون دولار في العام 2024"، وفق ما أكّده المكتب الإعلامي للمدير العام لمرفأ بيروت عمر عيتاني.

وفي شهر تموز 2025، بلغت حركة الحاويات في المرفأ نحو 100 ألف حاوية نمطية، ما يعكس زيادة الحركة بنسبة 39 بالمئة مقارنة مع الحركة المسجّلة في تموز 2024، وفق ما أعلنته إدارة واستثمار مرفأ بيروت. ووفق هذه النتائج، أشار المكتب الإعلامي في حديث لـ"المدن"، إلى أنّ مرفأ بيروت "خرج من حالة المرفق التقليدي، ليدخل في طور المؤسسة المتكاملة العاملة على رؤية مستقبلية لا مجرد استمرارية تشغيل. وبالتالي، المرفأ اليوم في حال أفضل، فالعائدات تضاعفت خلال ثلاث سنوات وتعزّزت العلاقات اللوجستية مع شركات الشحن العالمية وبات مفهوم الشفافية في التعاقد والتشغيل، ركيزة أساسية".

بالتوازي، لا ينفصل مسار تعافي حركة المرفأ عن واقعه الأمني، فضمان الأمن والرقابة على ما يخرج ويدخل من وإلى المرفأ، أولوية لتطوير العمل والحماية، وهذا ما يفترض بالماسحات الضوئية Scaners أن تساهم فيه. هذه الماسحات التي ركّبت اثنتان منها في مرفأ بيروت "تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي وتصل قدرتها التشغيلية إلى الكشف على 60 مستوعباً (كونتينر) في الساعة الواحدة في حين أن القدرة التشغيلية لما كان متوفراً لا تتجاوز الـ40 مستوعباً في اليوم الواحد"، وفق ما قاله وزير المالية ياسين جابر، منتصف شهر تموز الفائت.

ولضمان المزيد من الأمن وجودة العمل، وقّع جابر مناقصة "لمكننة تحديث أجهزة المعلوماتية في الجمارك. فضلاً عن إجراء عملية تفاوض مع شركات عدة تتولّى عمليات الكشف والتتبّع المسبق للبضائع القادمة إلى لبنان، وذلك بغية ضبط محاولات التلاعب بالأسعار وأنواع البضائع المشحونة. على أنّ تمويل هذه المناقصة تمّ بموجب منحة بقيمة مليوني ومئة ألف دولار، مقدمة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي".

شاهد ثابت

تلعب الإهراءات دور الشاهد الثابت على جريمة تفجير المرفأ وعلى بطء العمل لإيجاد حلّ يساهم في ضمان الأمن الغذائي للبلد، وهو الدور الذي لعبته الإهراءات لعقود. فهي "سمحت للدولة بتخزين بين 110 إلى 120 ألف طن كمخزون استراتيجي"، وفق ما قاله مدير الإهراءات أسعد حداد الذي أشار في حديث لـ"المدن" إلى أنّ "هذه القدرة مفقودة اليوم".

على أنّ الحل المستقبلي "يجب أن يتضمّن بناء إهراءات في بيروت وخارجها لا سيّما في مرفأ طرابلس. بالإضافة إلى أماكن خارج المرافىء". وبرأي حداد، تبقى العقبة الأساسية هي التمويل "لكن وزارة الاقتصاد لديها تصورات لبناء إهراءات جديدة في أكثر من مكان، وتعمل على تحريك ملف التمويل لتأمين الهبات".

تحسّنت حركة المرفأ، لكن ما زالت غير قادرة على نقل البلد إلى حالة التعافي الكامل من نتائج التفجير. وبموجب ما تقدّمه السلطة السياسية حتّى الآن، قد لا نشهد تعافياً قريباً، فالقفز فوق ما حصل منذ 5 سنوات، يستوجب تغييراً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً يمكِّن الناس من تشكيل واقع جديد أكثر رخاءً، لا يستطيع المرفأ وحده تأمينه، رغم نشاطه.