المصدر: المدن
الكاتب: نغم ربيع
الثلاثاء 4 تشرين الثاني 2025 14:51:52
تحوّلت ليلة الجمعة مغارة جعيتا إلى ما يشبه صالة أفراح. موسيقيون، عازفون، ومدعوّون تحت سقف الهوابط الكلسية التي كانت – حتى الأمس القريب – تُحاط بالصمت والرهبة. فيديو واحد كان كافيا ليثير ضجيجاً وطنياً، ويضع واحدة من أهم المغاور الطبيعية في الشرق الأوسط في قلب سجالٍ سياسي وبيئي وأخلاقي.
الواقعة بدأت حين زار وفد من عائلة إيطالية المغارة ضمن جولةٍ سياحية في لبنان، فأُعجب بالمكان واقترح إقامة حفلٍ رمزيّ لما قبل الزفاف في داخلها. "كانت الفكرة مجرد تجربة صغيرة، نصف ساعة فقط، بحضور نحو 120 شخصاً"، يقول رئيس بلدية جعيتا وليد بارود لـ"المدن"، قبل أن يعترف بأنه "أخطأ بعدم طلب إذنٍ خطي من الوزارة، واكتفى بالطلب الشفهي".
تحذيرات بيئية
الخبراء لم يتهاونوا. فالحفل، خالف بحسب الاختصاصيين معيارين بيئيين أساسيين لحماية المغارة: الأول، الضجيج والذبذبات الناتجة عن الموسيقى، والتي يمكن أن تؤثر على تكوينات المغارة الحساسة، خصوصاً في منطقةٍ معرضةٍ للزلازل.
والثاني، ازدحام الزوار وارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الهواء، ما يسرّع تآكل الهوابط والصواعد. يقول الأستاذ في الجامعة اللبنانية والباحث الجيولوجي داني عازار لـ"المدن": "ثاني أوكسيد الكربون والذبذبات الصوتية يؤثران مباشرة على الصخور الكلسية، ولا يجوز أن يكون هذا العدد من التجمعات في مكان بيئي هش كهذا ومركز في نقطة واحدة".
من الصمت إلى العرس
في هذا السياق، يرد بارود "النية كانت طيبة، لإنعاش السياحة ورفع مداخيل البلدية والدولة ولإبراز المغارة وتسويقه، لكنّ كل شيء في لبنان يدخل في زواريب السياسة الضيقة". ونفى أن تكون الإنارة أو نسبة ثاني أوكسيد الكربون قد سبّبت ضرراً بيئياً. فـ"نحن كنا نراقب كل شيء بدقة"، كما قال. لكنّ ما عُدّ في نية البلدية محاولة للترويج السياحي، تحوّل مع انتشار الفيديو إلى قضية رأي عام.
يذكر أن المغارة أقفلت حوالي ثمانية أشهر، واستعادت نبضها في 15 تموز الماضي، إثر توقيع عقدٍ بالتراضي بين وزارة السياحة وبلدية جعيتا، يخوّل الأخيرة إدارة وتشغيل الموقع مؤقتاً، ريثما تُنجز الوزارة دفتر الشروط الجديد للمزايدة العامة. البلدية، ومنذ اليوم الأول، تحركت بسرعة في محاولةٍ لاستعادة مجد المغارة كوجهةٍ عالميةٍ تحمل رمزية وطنية وسياحية في آنٍ واحد.
إنذار بعد الفيديو
انتشار مقطع الفيديو الذي وثّق العرس والموسيقى في عمق المغارة، كان كفيلاً بقلب الصورة رأساً على عقب. فبعدما حاولت البلدية تبرير الحفل كـ"مبادرة رمزية"، أعلنت وزارة السياحة أنها ستوجّه كتاب إنذار رسمي إلى بلدية جعيتا، تُحدّد فيه المخالفات المرتكبة وتطلب الالتزام الكامل بالعقد الموقع. وجاء في بيان الوزارة أن البلدية "نظّمت الاحتفال دون تقديم طلب رسمي أو إشراك النادي اللبناني للتنقيب عن المغاور كما يفرض العقد"، مؤكدة أن التعميم رقم 36/2025 الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء يمنع استخدام المواقع العامة أو التراثية لأي نشاط من هذا النوع قبل الحصول على الأذونات اللازمة.
الوزارة، وإن قدّرت جهود البلدية في إعادة فتح المغارة وتشغيلها بعد وفاة مدير شركة "ماباس" نبيل حداد، شددت على أن أي نشاط ترويجي أو استثماري داخل المغارة يجب أن يخضع لموافقة مسبقة وخطيّة.
بين الإحياء والإساءة
لم يكن المشهد عابراً. فالمغارة التي كانت تُمنع فيها الهواتف والتصوير، تحوّلت فجأة إلى موقعٍ تُعزف فيه الموسيقى. بين من رأى في الخطوة مبادرة تسويقية جريئة، ومن اعتبرها استهتاراً بتراثٍ طبيعي فريد، عادت جعيتا إلى الواجهة لا بصفتها معلماً سياحياً فحسب، بل مساحةً يتواجه فيها منطق الاستثمار مع منطق الحماية.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ نحو ثلاث سنوات كشف المهندس المعماري إيليو عطا الله النقاب عن تصور فني لتحويل مغارة جعيتا إلى قاعة زفاف فخمة. وقدم تصورات لإعادة ترميم لمعالم سياحية أخرى مثل المعبد الرومانيي في بعلبك، وقلعة جبيل وشلالات بالوع بلعا في تنورين. وتعد المغارة واحدة من الوجهات السياحية الأساسية في لبنان وكان قد اكتشفها مبشر أميركي عام 1836. وهي تضم كهفين متميزين من الحجر الجيري يبلغ طولهما حوالي 9 كيلومترات، تتدلى وترتفع منه الصواعد والهوابط التي تكونت على مدى ملايين السنين من خلال تسرب المياه الجوفية في جبال لبنان.