حرب اللحوم في لبنان ... الدولة هي الحلقة الأضعف

كتب محمود فقيه في النهار: اللحم الأحمر، كان إحدى المواد الغذائية التي تعرضت لارتفاع جنوني في سعرها، واحياناً اختفى أثره من الملاحم. حتى أن الأسعار تضاعفت وما هو مدعوم بات معدوما. وقبل أيام بتنا نلاحظ أن متاجر اللحوم تعلّق على واجهاتها لافتات تروّج لإحدى شركات استيراد المواشي، وتؤكد أن السعر هو 42 ألف ليرة لكيلو لحم البقر المفروم و45 ليرة لكيلو الهبرة عملاً بتسعيرة وزارة الاقتصاد، وكأن سحراً أصاب اللحامين والتجار. ولكن ما السبب الذي سبق له أن أدى إلى فقدان هذه السلعة من السوق أو رفع أسعارها؟ وهل احتدام المنافسة وشحنات الابقار التي وصلت إلى المرفأ ساهمت في تحويل الذئب إلى حمَل؟

أساس المشكلة

يؤثر في سوق اللحوم في لبنان أربعة تجار كبار حصة أحدهم، وهي شركة سليمان للمواشي، 30% من حركة السوق، تليها شركات خليفة، مصري والعشي.

وبالنسبة الى الدعم، لم يشأ التجار أن تكون حصة كل منهم كغيره من التجار، لذا انبرى أحدهم وادّعى أن تجارة المواشي هي لطائفته فقط، مطالباً بكوتا من الدعم، وهو ما حصل عليه دون البقية، واستحوذ على نسبة 18% قابلة للارتفاع عندما يدخل السوق بنفسه عبر تجار صغار أو يتحالف كما هي الحال مع تجار كبار. رغم حصول المستوردين على موافقة وزارة الاقتصاد للاستفادة من الدعم، إلا أن تأخر الحصول على الأموال دفع التجار إلى اتخاذ إجراء بحق المواطنين وحجز المواشي، ما أدى إلى فقدانها ورفع سعرها.

هذا القرار الجماعي بحجب اللحوم عن السوق، حاولت شركة عشّي غروب لتجارة المواشي أن تكسره، إلا أن أحد أصحابها تعرض لاعتداء جسدي مباشر، دفعه إلى السكوت والكف عن الذبح والتوزيع. إلا أن منافسة استجدت بين مستوردي المواشي، دفعت بعضهم إلى الافراج عما يخزنونه من أبقار.

وبما أن التجار حصلوا على الموافقة للاستيراد والاستفادة من الدعم، ترى الوزارة أنه لا يحق لهم احتكار ما تم استيراده، وتترك لهم الخيار في ان يبقوا ضمن إطار الدعم أو رفعه عنهم، وخصوصا إذا كان الهدف من وراء حجز المواشي هو إعادة بيعها في السوق بعد رفع الدعم المرتقب في النصف الثاني من أيار المقبل.

"المتعيّشون" من أدوات احتكار السوق

لا ينحصر بيع اللحوم بين المسلخ والتاجر، أو بين المسلخ واللحام، فالعملية ليست بهذه السهولة، وقبل أن تستضيفه سفرة الطعام لا بد لكيلو اللحم من أن يمر من "مالك لهالك لقبّاض الأرواح". هناك عنصر خفي بين التاجر واللحامين وهم الباعة المتعيّشون.

اقترحت وزارة الاقتصاد ان يكون البائع المتعيّش من ضمن الشركة، إلا أن الشركات طالبت بأن تزاد كلفة المتعيش على الاسعار، فبقيت الحال كما هي عليه. هذا النوع من الباعة يشتري من التاجر بسعر محدد ويبيع للحامين بسعر محدد لا يجوز التلاعب به. لعب المتعيشون دوراً سلبيا في السابق في انكماش السوق، ما دفع الوزارة إلى إيقافهم عن العمل. هذا الأمر أثر سلباً على الأسواق وعطل الحركة حيث باتت المتاجر خالية من البضاعة، الامر الذي يظهر مدى تأثيرهم وتحكمهم بسوق اللحم.

الوزارة تهرب من المواجهة

نزل وزير الاقتصاد عند خاطر التجار، وتابع معهم شؤونهم وهواجسهم، إضافة إلى تعهداتهم وأحاديثهم عبر تطبيقات الهاتف. لم يشأ الوزير راوول نعمة توكيل أحد بملف اللحم بل فضّل متابعته بنفسه ودخل في "غروب واتساب" معهم.

 

يدّعي نعمة أن عمله هذا هو "محاولة جاهدة لكسر الاحتكار وتوفير اللحم المدعوم في الأسواق"، إلا أن النفوذ بشتى أشكاله يشكل حائلاً دون ذلك. التجار يعرفون السوق وخفاياها والوزير ما زال يتصرف وكأنه موظف في فترة تدريب.

أن تدهم وزارة الاقتصاد حقولاً لحشيشة الكيف أسهل بكثير من دهم مزرعة محمية بمسلحين وتضم ما يناهز 25 ألف رأس ماشية من أبقار وأغنام.

لم يرَ الوزير حلاً سوى أن يُخضِع التجار لتعهدات موقعة لدى الكاتب بالعدل، "يتعهدون فيها عدم احتكار المواشي الحية، وبيعها حصراً داخل الاراضي اللبنانية، وكذلك الالتزام ببيع المواشي الحية حصراً، لمتعيشي اللحوم وأصحاب المسالخ. كما يلتزم التجار بيع أبقار حية للقرى النائية التي لا تتوافر فيها مسالخ شرط أن يتسلم كل لحام رأسين في الأسبوع حدا أقصى، وبعد إبراز بطاقة تعريف من وزارة الزراعة أو المختار وموافقة صريحة من السلطات المحلية تجيز له ذبح الماشية في ملحمته. ولا يسلم التجار أي معيش لحوم أو أي صاحب ملحمة إلا بعد ان يسلم فيديو يثبت فيه ذبح رأس الماشية المسلّمة اليه سابقاً وتاريخ عملية الذبح، ويكون واضحا من الفيديو بعد الذبح رقم الرأس".

كما لجأت وزارة الاقتصاد إلى شركة مكتب تدقيق ومحاسبة VERITAS يتحمل التجار تكاليفه. ويعمد المكتب إلى مراقبة السعر المتداول بين التاجر والمعيش والملاحم، ويدقق المكتب بعدد الرؤوس المدعومة وحركتها ضمن السوق اللبنانية للحد من الاحتكار.

سوريون يستفيدون ولبنانيون يسعّرون بالدولار

وفي هذا الإطار، تنفي شركة سليمان للمواشي على لسان الدكتور عبد السلام سليمان في حديث الى "النهار" أن يكون التجار يحتكرون اللحم في لبنان، مشيرا الى أنهم كشركة يوزعون ما يقارب 120 رأس ماشية يومياً للحامين بمبلغ 27000 ليرة للكيلو في مناطق مختلفة، وأنهم على هذا المنوال منذ الشهر التاسع من العام الماضي، مؤكدا التزامهم التعهدات الموقعة من قِبلهم لدى الكتّاب بالعدل، ولكنه في الوقت عينه لا يضمن تعهدات الباعة المتعيشين.

ويؤكد سليمان ما سبق للشركة أن أوضحته في ما يخص الأخبار التي طاولتها، ويشرح أيضاً موضوع الكوتا من الدعم، مشيرا إلى أن اعتمادها وتوزيعها ارتكز على التاريخ التجاري في الاستيراد لكل تاجر، وعلى هذا الأساس تم التوزيع لاعشوائياً وعلى أساس طائفي. ويكشف أن هناك تجارا سوريين يستفيدون من الدعم بينهم تاجر يدعى عمر محمود الشواحني الذي دخل السوق عبر تاجر لبناني يدعى ذيب نخلة واستحصل على نسبة 30% من الكوتا وهي توازي 37 مليون دولار. ويتهم سليمان الشواحني بتهريب نصف البضائع إلى الخارج.

ويربط ارتفاع سعر كيلو اللحم في بعض المناطق إلى ما يقارب ضعفَي السعر الرسمي أو دونه بقليل بالسوق السوداء، مطالباً بتفعيل رقابة البلديات لأن كل الأبقار الموجودة في السوق مدعومة.

ويتعارض كلام عبدالسلام سليمان مع كلام صاحب "ملحمة البقاع الكبرى" محمد رفعت شيخاني الذي يعيد سبب انقطاع اللحوم من السوق لكون التجار قاموا بتسعير المواشي بالدولار الأميركي، وأن شركة سليمان ترفض أساساً تسليم الأبقار سوى "لجماعتها".

ويوضح شيخاني لـ"النهار" أن لحّامي بلدة سعدنايل لم يذبحوا أبقاراً لولا قيام التاجر ذيب نخلة بتوفير الماشية بالتنسيق مع البلدية. ويؤكد أن نخلة هو من يمدهم بالمواشي، وفي غضون اسبوعين تسلموا منه نحو 45 عجلا، وحالهم حال البقاع الأوسط والغربي والشمالي حيث يتردد اللحامون من هذه المناطق إلى محلة حوش الحريمة للتسلم من نخلة، متهما تجار البقاع ومن بينهم جان صعب المعلوف بتسعير مواشيهم بالدولار الأميركي، ويستثني منهم نخلة الذي يسلمهم كيلو اللحم بسعر وزارة الاقتصاد المعتمد للحم الحي، بحسب شيخاني.

تصدير الأغنام جريمة مفتعلة

مع محاولات ضبط الاحتكارات والتضييق على المحتكرين، يحاول بعضهم نقل المعركة إلى أماكن أخرى ربما للتعتيم على عملية احتجاز المواشي. كما يحاول بعضهم "التصوير" ان تصدير الاغنام البلدية مخالف للقانون وأنها أغنام مدعومة.

إلا أن الواقع عكس ذلك. يربّي لبنان الأغنام البلدية المعروفة بالعويس وهي خراف صغيرة لا يتعدى وزنها الـ 40 كيلوغراما، غالبا ما كانت تصدر الى البلدان العربية وهي مخصصة للموائد. سعر العويس أغلى من المستورد وليس بمقدور اللبناني شراؤه اليوم لانهيار القدرة الشرائية، ولطالما اعتمدت السوق المحلية على أغنام "البيلا" التي غالباً ما يتم استيرادها من تركيا، جورجيا ورومانيا. إذا كان الهدف من تصدير الأغنام البلدية هو إدخال العملة الصعبة إلى البلاد وطالما ان السوق المحلية لا تتلاءم مع القدرة الشرائية، فالأمر في المنطق مشروع، لكنه يستوجب الرقابة. ففي حال جرى إدخال مواش وخراف مدعومة وتم تصديرها إلى الخارج، فهي عملية تهريب تمس بالأمن الغذائي وحتى الأمن القومي في ظل الانهيار الاقتصادي.