حصار التهريب يبدأ من المرافئ: أجهزة الفحص تدخل المعركة الجمركية


من دون مرافئٍ مُحصَّنة، قد يتبدّد ما تبقّى من قدرة لبنان على تحصيل الإيرادات الجمركيّة، فيتحوّل الاقتصاد إلى خزنةٍ مفتوحة على البحر: الموارد تتسرّب مع كلّ سفينةٍ تمرّ، ولا يبقى في الخزينة إلا الفتات. لهذا يتصدّر مشروعَا توسعة مرفأَي بيروت وطرابلس، وتركيب أجهزة الفحص الشعاعي فيهما، معركةً حقيقيّة تتشابك فيها اعتبارات الأمن القومي مع الاستدامة الماليّة. فالتحدّي بعد سنوات الانهيار الاقتصادي والماليّ لم يعد مجرّد زيادة القدرة الاستيعابيّة للحاويات، بل بات اختبارًا مزدوجًا للدولة: سدّ فجوة تهريب تُقدَّر بنحو ملياري دولار سنويًّا، من جهة، واستيفاء أحد الشروط "المفصليّة" التي يراقبها صندوق النقد الدولي قبل إبرام أي برنامج تمويلي جديد، من جهةٍ أخرى. 
 
استعادة الجسر اللوجستي: بين الإسمنت والبيانات
بموجب امتيازٍ يمتدّ عشر سنوات، التزمت مجموعة CMA CGM استثمار 33 مليون دولار لإعادة تأهيل الرصيف 16 في مرفأ بيروت، تُسدَّد 19 مليونًا منها في العامين الأوّلين. ستصل رافعات STS طويلة الذراع، وسيُنشَر نظام رقمنة يربط بيانات الحاويات مباشرةً بإدارة الجمارك. الهدف رفع الطاقة التصميميّة من نحو 650 ألف حاوية مكافئة TEUعام 2023 إلى 1.4 مليون TEU بحلول نهاية 2026، أي العودة تقريبًا إلى مستوى ما قبل انفجار 2020. (TEU هو اختصار لـ Twenty-foot Equivalent Unit، وحدة قياس قياسيّة تمثّل سعة حاوية بطول 20 قدمًا، وتُستخدم لتقدير كمّية البضائع التي يمكن شحنها على متن سفن الحاويات أو شاحنات النقل).
القيمة المضافة الحقيقيّة لا تكمن في الإسمنت وحده، بل في تحويل المرفأ إلى منصّة بيانات حيّة. التسعير يصبح آنيًّا، والشحنات المشبوهة تُرصد قبل أن تتفلّت إلى السوق الداخليّة، فتخفَّض تكاليف الاستيراد النظاميّ ويتنفّس المواطن فارقَ السعر.
أمّا وفي الشمال، تدير Gulftainer-Tripoli المملوكة بنسبة 78 في المئة لـCMA CGM مشروع تمديد رصيف بطول 600 م وعمق 15.2 متر، مع ردم خلفيّ قدره 650 ألف م²، بكلفة تُقدَّر بـ 93 مليون دولار يُموِّلها ائتلافٌ خليجي-صيني. يُفترض أن يدخل الرصيف الخدمة في الربع الأوّل من 2026، رافعًا القدرة السنويّة إلى 800 ألف TEU هكذا تتحوّل طرابلس إلى حلقةٍ أساسيّة في شبكة "الحزام والطريق" البحريّة ونافذةٍ لترانزيت البضائع إلى سوريا والعراق، فتمنح لبنان بطاقة تأمينٍ جغرافيّة ضدّ الاحتكارات الإقليميّة التي تعيد رسم خرائط الإمداد بعد حرب غزّة واضطراب قناة السويس.
 
التقنية كسلاحٍ ماليّ وأمنيّ
وما كان ليُبهر صندوق النقد والأجهزة الدوليّة مجرّدُ رصيفٍ جديد لو لم يُرفَق بتكنولوجيا فحصٍ متقدّمة. أربعة أجهزة HCVM-XL من Smiths Detection وأخرى من طراز Eagle P60 من Rapiscan، بطاقة شعاعيّة 6 MeV، تخترق فولاذًا بسماكة 320 ملم، وتمسح مئة شاحنة في الساعة بنمط "المرور المباشر". وتتيح تقنية CabScan إبقاء السائق داخل مقصورته، فتنخفض الحوادث المهنيّة ويرتفع المسح إلى 80 في المئة من الحركة اليوميّة كما توصي منظمة الجمارك العالميّة. وماليًّا، يقدَّر صافي القيمة الحالية للمشروع بأكثر من مليار دولار خلال خمس سنوات إذا خُفِّض التهريب إلى النصف فقط، وهو سيناريو متحفّظ قياسًا بخسائر تتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنويًّا.
 
صندوق النقد واختبار الجباية
بعد زيارة بعثته إلى بيروت في 5 حزيران 2025، شدّد صندوق النقد على أنّ "تحسين الجباية الجمركيّة شرطٌ أساسيّ غير قابلٍ للتجزئة" ضمن الإطار المالي متوسّط الأجل. الرسالة واضحة: لا اتفاق تمويليًّا ولا إعادة إعمارٍ واسعة من دون سكانرٍ فعّال. رفع رسم تفتيشٍ قدره 15 دولارًا للحاوية يرفع كلفة تفريغ الحاوية القياسيّة في بيروت إلى 185 دولارًا، أعلى بـ15 دولارًا من ميرسين، وأقلّ بنحو 90 دولارًا من متوسّط حيفا لعام 2024. الفارق السعريّ يبقى مريحًا طالما تسير الشاحنات بلا تكدّس، إذ باتت خطوط الملاحة تعتمد معيار "التفريغ المزدوج": تختار المرفأ الأسرع لا الأرخص فقط. كلّ دولار يُجبى هنا يمكن أن يموّل دواءً مدعومًا أو منحةَ مدرسيةٍ لطالبٍ لبناني، فتستعيد الدولة شيئًا من معنًى الضرائب: أن تعود على الناس بخدمةٍ ملموسة.
لكنّ في المقابل، ثمة ألف و800 عاملٍ دائم ومياوم يخشون أن يُستبدَلوا بخوارزميّة. يحذّر الاتحاد العمالي العام من "تسريحٍ مُقنَّع" مع دخول الرافعات الآليّة ونُظُم التعرف بالذكاء الاصطناعي. النقابات تقترح اقتطاع دولارَين من كلّ رسم تفتيش لتمويل "صندوق مهارات" يغطّي التدريب والضمان الصحي، بحيث ينتقل العامل من قوّةٍ عضليّة إلى فنّيّ صيانةٍ عالي المهارة. العائد هنا ليس ماليًّا فحسب؛ إنّه استثمارٌ في كرامة الإنسان الذي سيُشغّل هذه الآلات.
 
سيناريوهات الماليّة العامّة
عند تشريح أرقام وزارة المال يتبيّن أنّ كلّ تراجعٍ بنسبة 10 في المئة في التهريب يضيف إلى الخزينة نحو 0.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي 150–170 مليون دولار بأسعار 2024. سيناريو وسطي يقضي بخفض التهريب 60 في المئة بحلول 2026، فيرفع الإيراد الجمركي من 6.3 في المئة إلى 8.1 في المئة من الناتج، ويقلّص العجز الأولي من 3.8 في المئة إلى 1.8 في المئة. عند هذا المستوى يقترب لبنان من العتبة التي يعتبرها صندوق النقد "نقطة انقلاب" تسمح بوقف تراكم الدين العام شرط بقاء الفائدة الحقيقيّة دون 5 في المئة ومتوسّط نموٍّ يفوق 2 في المئة.
وكلّ تراجعٍ بنقطة مئويّة في العجز الأولي يقلّل حاجة مصرف لبنان إلى إصدار ليرةٍ جديدة بنحو 1.1 تريليون ليرة (75–80 مليون دولار بسعر منصة "صيرفة")، فيخفّ الضغط على سعر الصرف وتتباطأ دوّامة غلاء السلع. هذا الرقم المجرّد يعني وجبةً أساسيّة أرخص في السوق الشعبية ودواءً منقذًا من نفاد الرفوف. على امتداد ثلاث سنوات، يمكن خفض قاعدة النقد 3–3.5 تريليونات ليرة مقارنة بمسار "الأعمال كالمعتاد"، ما يحدّ التضخّم الذي مزّق القوّة الشرائيّة للعائلات.
لكن إذا تعثّر تشغيل أجهزة الفحص أو تراخت الرقابة بعد الأشهر الأولى، تُعاد إنتاج ديناميّة «فتحة المرفأ»: الإيرادات الموعودة تتبخّر، ويُعاد تمويل العجز بالليرة. سيناريو وزارة المال المتشائم يُظهر أنّ استمرار التهريب عند مستوياته الحالية يبقي العجز الأولي فوق 4 في المئة من الناتج حتى 2027، ويفرض طباعة ما يفوق 10 تريليونات ليرة إضافيّة سنويًّا، مؤدّيًا إلى تضخّمٍ من رقمين مزدوجين يقوّض أيّ برنامج لتثبيت الأسعار.
على هامش ذلك، تُقدّر ورقةٌ لـ"مركز كارنيغي" (آذار 2025) اقتصاد الكبتاغون في الإقليم بأكثر من أربعة مليارات دولار، يعبر جزءٌ معتبرٌ منها المرافئ اللبنانيّة في طريقه إلى الخليج. إنفاذ الفحص الفوريّ على الأرصفة يسدّ ما يُعرف بـ "الممرّ الأخضر" الذي مكّن سابقًا من تمرير شحناتٍ عالية القيمة تحت بنودٍ منخفضة الرسم. لكنّ الطوق الأمني لن يكتمل من دون أجهزة مماثلة في معبَرَي المصنع والعبوديّة، وإلّا تحوّلت الموانئ إلى عنق زجاجةٍ بينما تبقى الحدود البرية مشرَّعةً للتهريب.
 
بين فائض الربح والعدالة الضريبيّة
ينتقد بعض خبراء الاقتصاد السياسي دفتر الشروط لكونه "مفصَّلًا على قياسCMA CGM" إذ تمتلك المجموعة 78 في المئة من مشغّل مرفأ طرابلس، ما يفتح الباب أمام أرباحٍ احتكاريّة قد تتجاوز 80 في المئة مقارنة بمتوسط 40 في المئة في عقود شرق المتوسّط. أي ثغرةٍ في الشفافيّة تعني إعادة إنتاج دائرة التهريب بدلًا من كسرها؛ فالتهريب يتغذّى تاريخيًّا على ضعف الحوكمة لا على نقص المعدّات. لذلك يُطالَب بنشر جميع العقود ورسوم الامتياز، وربط الدفعات بـ مؤشّرات أداء تشمل زمن التخليص ونسبة الحاويات المفحوصة وحصّة الإيرادات الجمركيّة من الناتج.
وتُظهر الأرقام أنّ الاستثمار في السكانر والرقمنة أقلّ كلفةً بما لا يُقاس من استمرار نزيف التهريب. لكنّ النجاح لا يتوقف على الآلات وحدها، بل على شرطَين حاسمَين:
عقد امتيازٍ شفاف يُنشَر أمام الرأي العام ويخضع لتدقيقٍ مستقلّ.
آلية "انتقالٍ عادل" تحمي العمّال وتعيد توزيع ثمار الإنتاجيّة الجديدة.
من دون هذين الشرطين، سيبقى المرفأ ثغرةً تنزف العملة الصعبة. بهما، يمكن تحويله إلى رافعةٍ تعيد للبنان ما فقده من سيادته الماليّة، وتفتح الطريق أمام اتفاقٍ طال انتظاره مع صندوق النقد. أمّا على الجانب الإنساني، فثمّة قصصُ أطفالٍ سيعودون إلى مدارسهم، ومتقاعدين سيجدون حسابات تقاعدهم أكثر أمانًا، وعاملٍ كان يخشى التسريح سيجد نفسه مشغّلًا لمنظومةٍ تكنولوجيّةٍ متقدّمة.