المصدر: النهار
الكاتب: اسكندر خشاشو
الجمعة 19 كانون الاول 2025 14:45:12
في سياق الحراك الديبلوماسي تجاه لبنان، يحل رئيس وزراء إيرلندا ميخائيل مارتن في بيروت في زيارة رسمية تحمل أبعادا سياسية وأمنية تتجاوز بعدها البروتوكولي، وتندرج في إطار اهتمام أوروبي متزايد بالوضع اللبناني، ولا سيما في ظل التوترات المستمرة على الجبهة الجنوبية ودور قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان اليونيفيل.
تأتي الزيارة في توقيت بالغ الحساسية، حيث يواجه لبنان ضغوطا داخلية وخارجية متشابكة، فيما تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تثبيت الاستقرار ومنع توسّع رقعة المواجهة في الجنوب. ومن هذا المنطلق، تشكل بيروت محطة أساسية لرئيس الحكومة الايرلندية، الذي ينتظر أن يلتقي كبار المسؤولين اللبنانيين، وفي مقدّمهم رئيس الحكومة نواف سلام، لبحث تطورات الوضع الأمني والسياسي، إضافة إلى سبل تعزيز التعاون الثنائي والدعم الدولي للبنان في هذه المرحلة الدقيقة.
ويحتلّ ملف اليونيفيل حيزا محوريا في برنامج الزيارة، إذ تعدّ إيرلندا من أقدم وأبرز الدول المساهمة في هذه القوة منذ إنشائها عام 1978، وقدّمت على مدى عقود جنودا وضباطا شاركوا في مهام حفظ السلام في جنوب لبنان. غير أن هذا الحضور لم يخل من محطات مؤلمة، أبرزها مقتل جندي إيرلندي في صفوف اليونيفيل جنوب لبنان عام 2022، في حادثة أثارت صدمة واسعة في إيرلندا، واتهمت على أثرها عناصر من "حزب الله" بالضلوع في القضية، ما ترك حينها تداعيات سياسية وإعلامية واضحة وألقى بظلاله على مقاربة دبلن للواقع الأمني في الجنوب اللبناني، من دون أن يصل إلى حدّ القطيعة أو المسّ بجوهر العلاقة مع الدولة اللبنانية.
ومن المتوقع أن يزور مارتن الوحدة الإيرلندية العاملة ضمن اليونيفيل، في رسالة واضحة تؤكد التزام بلاده استمرار دعم الاستقرار على الحدود اللبنانية الجنوبية، في وقت يتعرض فيه هذا الدور لضغوط ميدانية وسياسية متزايدة، وفي ظل نقاش داخلي إيرلندي مستمر حول سلامة الجنود المنتشرين في مناطق التوتر.
ولا تنفصل هذه الزيارة عن الموقف الإيرلندي التقليدي الداعم لسيادة لبنان ووحدة أراضيه، إذ لطالما عبّرت دبلن، سواء عبر الحكومة أو في المحافل الدولية، عن تأييدها لدور الأمم المتحدة وضرورة احترام القرار 1701، مع التشديد على حماية المدنيين ومنع انزلاق المنطقة نحو مواجهة شاملة. كما تعرف إيرلندا بمواقفها النقدية للتصعيد العسكري في المنطقة، ما يمنح زيارتها بعدا سياسيا إضافيا، خصوصاً في ظل التباينات الدولية حول مقاربة الملف اللبناني.
أما على مستوى العلاقات الثنائية، فهي علاقات هادئة وغير صدامية، تقوم أساسا على التعاون الديبلوماسي والأمني من خلال الأمم المتحدة، إضافة إلى دعم إنساني وتنموي متواصل، لا سيما في مجالات الإغاثة والمساعدات المرتبطة بالأزمات التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة. ورغم غياب المصالح الاقتصادية الكبرى بين البلدين، فإن العلاقة اكتسبت بعدا سياسيا ومعنوياً بفعل الحضور الإيرلندي الطويل في الجنوب اللبناني، وما راكمه من رصيد إيجابي لدى الدولة اللبنانية والمجتمع المحلي، على الرغم من الهزات التي طرأت عليها في محطات أمنية حساسة.
في القراءة السياسية للزيارة، يمكن اعتبارها رسالة مزدوجة، الأولى إلى الداخل اللبناني ومفادها أن لبنان لا يزال يحظى باهتمام دولي، وأن استقراره يشكل أولوية أوروبية، والثانية إلى المجتمع الدولي تؤكد تمسّك إيرلندا بدور اليونيفيل. كما تعكس الزيارة حرص الدول الأوروبية على البقاء حاضرة في المشهد اللبناني، في وقت تشهد فيه الساحة الإقليمية تحولات متسارعة ومحاولات لإعادة رسم موازين النفوذ.
وعليه، لا يمكن فصل زيارة رئيس الوزراء الإيرلندي عن المشهد الإقليمي الأوسع، ولا عن سباق ديبلوماسي دولي غير معلن للحفاظ على خطوط التواصل مع لبنان ومنع انهيار ما تبقى من استقرار فيه. زيارة تحمل في طياتها أكثر من عنوان، وتؤكد أن الجنوب اللبناني، كما الدولة اللبنانية ككل، ما زالا في صلب الاهتمام الدولي، ولو بوسائل هادئة وبعيدة عن الضجيج السياسي.