في أواخر القرن التاسع عشر، شُيّدت محطة القطار في مار مخايل، لتصبح واحدة من أبرز محطات لبنان ضمن شبكة سكة الحديد العثمانية. لم تكن مجرد مبنى أو سكة، بل صِلة وصل جعلت بيروت تُعرف يومها بـ"بوابة الشرق". فمن هنا كانت القطارات تنطلق نحو فلسطين ومصر، وتكمل طريقها وصولاً إلى إسطنبول، بينما تصل في الاتجاه الآخر إلى دمشق وحلب وحماة، لتربط مرافئ بيروت وطرابلس بأهم حواضر الساحل السوري وشماله.
لكن هذه الحركة انكسرت باكراً. نكبة 1948 أقفلت خط فلسطين، وحصرت رحلات القطار اللبناني في الداخل، أو عبر الحدود السورية. لاحقاً، جاءت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) لتعطّل معظم الشبكة، قبل أن تتوالى الضربات الإسرائيلية، فتزيد خراب المنشآت. ومع كل ذلك، بقيت سكك الحديد شاهدة على زمن كانت فيه بيروت مفتوحة على محيطها، تربط الاقتصاد بالعالم، وتختصر المسافات بين المدن والناس.
مشروع إحياء الذاكرة
حين دوّى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، لم تسلم محطة مار مخايل من أضراره. كانت أصلاً مهجورة، ينهشها الإهمال منذ عقود، فزاد الانفجار من هشاشتها. تحوّلت إلى أرض "سائبة"، على حد تعبير وزير الثقافة غسان سلامة، الذي قال لـ"المدن": "لا يمكن أن نترك هذا الموقع مهملًا وسط منطقة تستقطب الشبان اللبنانيين، من مار مخايل إلى الجميزة. أردنا أن يكون لهم مركز ثقافي عامر، يضج بالنشاطات، بدلًا من أن تبقى الأرض خراباً".
اليوم، تعود المحطة إلى الحياة، لا كسكة حديد، بل كمعلم ثقافي. وبدعم من اليونيسكو والحكومة الإيطالية، وبالتعاون بين وزارتي الثقافة والأشغال العامة، أُطلق مشروع ترميم مبنى المحطة وتحويله إلى مساحة للثقافة والذاكرة والابتكار.
وقال سلامة لـ"المدن" أن "الغاية ليست فقط ترميم مبنى، بل التأكيد بأن لبنان ليس يتيماً، وأن لدينا شراكات واتفاقات دولية مثمرة تعيد الرونق إلى هذا البلد". وأشار أيضاً إلى مشاريع أخرى مماثلة: ترميم قصر اليونيسكو، وقصر بيت الدين، وقصر الأمير أمين، معتبراً أن الثقافة جزء لا يتجزأ من عملية التعافي الاقتصادي. ولفت إلى أن تحويل جزء من أرض المحطة إلى مركز ثقافي عامر لا يتعارض مع أي خطط مستقبلية لإعادة تشغيل سكك الحديد، "إذ لن نقترب من السكك، وبالتالي سيبقى بالإمكان استخدامها لاحقاً وإعادة المحطة إلى دورها كما كانت في السابق". وختم قائلاً: "نحن نعمل لإعادة رونق هذا البلد إليه".
القطارات المؤجلة
أما وزير الأشغال فايز رسامني، فرأى أن "إعادة تفعيل القطارات أمر مكلف جداً، ولا يمكن أن يتحقق إلا من خلال خطط مشتركة مع الدول المجاورة". لكنه شدّد في حديثه لـ"المدن" على أن المشروع "يترك الباب مفتوحاً أمام المستقبل، إذ أبقينا السكك كما هي، بحيث إذا قررت الدولة لاحقاً إعادة تشغيل القطار، يمكن أن تعود المحطة إلى دورها الأصلي من دون عوائق".
ودافع رسامني عن مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، قائلاً أن "الموظفين الذين ينتقدهم الناس اليوم هم من حافظوا على هذه السكك ومنعوا بيعها خردة". وعن إعادة تشغيل الترامواي قال: "ندرس كل الخيارات التي من شأنها تسهيل حياة اللبنانيين. ذكرنا الترامواي كفكرة، لكننا لم نقل إننا سنعيده حتماً. إذا تبيّن أن جدواه الاقتصادية مقبولة، فسننظر فيه، أما الكلام عن إحيائه بشكل أكيد فهو غير صحيح".
من محطة قطار إلى مركز حياة
ما يُرسم اليوم في مار مخايل ليس عودة إلى الماضي بقدر ما هو محاولة لإنقاذ ما تبقّى منه. تحويل المحطة إلى مركز ثقافي، مع إبقائها جاهزة لأي مشروع مستقبلي لإعادة تشغيل القطار، يجمع بين الحنين إلى زمن السكك الحديد، وبين واقعية الحاضر الذي يصعب معه التفكير في خطوط جديدة. وفي مدينة أنهكها الانفجار والإهمال، قد يكون هذا المشروع مجرد خطوة رمزية. لكنه يحمل معنى أبعد: أن إعادة الإعمار ليست فقط في الحجر، بل أيضاً في الذاكرة، وأن المساحات المهملة يمكن أن تعود نابضة، إذا وُجد القرار والرؤية.