سوق العملات المشفرة يغرق مجددًا: هل بدأ عصر الانهيار؟

بعد ثلاثة أسابيع فقط على الانهيار الحاد في سوق العملات المشفرة، ها هو السوق يغرق في دوامة جديدة من الانحدار، حيث يشهد تراجعًا تدريجيًا وكبيرًا في آنٍ معًا.

شهد سوق العملات المشفرة منذ أيام قليلة تراجعًا حادًا، حيث انخفض سعر عملة بتكوين اليوم إلى نحو 99000 دولار، وسط ضغط متزايد لعمليات البيع، وفقدان ثقة المستثمرين وانعدام إمكانية تحديد القاع السعري. 

سبق هذا التراجع حدثٌ استثنائي في 10 تشرين الأول الماضي، حيث تكبد ملايين المتداولين في المراكز الطويلة خسائر بلغت حوالى 19 مليار دولار أميركي في عمليات التصفية خلال أقل من 24 ساعة، وهي الأكبر في تاريخ هذا السوق، ما أدى إلى محو المراكز المالية على بتكوين وإيثيريوم ومئات العملات البديلة (altcoins).

وكان المحفز المباشر لهذا الانهيار هو التصعيد التجاري بين الولايات المتحدة والصين، حيث هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على جميع الواردات الصينية قبل أن يعود فيتراجع عنها، في ظل ظروف سوقية شديدة الهشاشة أساسًا، حيث كانت تشهد ركودًا نسبيًا، وكذلك في ظل اتهامات متزايدة بتلاعب متكرّر من قبل ترامب بالأسواق المالية، مستغلًا منصبه وسلاح الرسوم الجمركية. خاصة بعد أن شهدت الأسواق شبهة تلاعب سابقة في نيسان 2025 الماضي، حيث ارتفعت أسهم شركته (DJT) Trump Media & Technology Group Corp بنسبة 22 في المئة خلال ساعات قليلة، بعد أن دعا الناس على منصةTruth Social  إلى شراء أسهم DJT، ليعود بعد ذلك بساعات قليلة إلى إعلان تعليقٍ مؤقت لمدة 90 يومًا للرسوم الجمركية الإضافية التي سبق أن أعلن عنها.

المحفزات والسياق الاقتصادي

تُعمِّق الأزمة الحالية، التي انطلقت في 3 تشرين الثاني وقع الصدمة الأولى، معاكسةً توقعات العديد من الخبراء حول إمكانيات التعافي البطيء. وإذا كان التصعيد التجاري بين الولايات المتحدة والصين هو الشرارة الأولى منذ ثلاثة أسابيع، فإن المحفز الرئيسي للانهيار الحالي يتعلق بالسياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي الأميركي، خاصة بعد أن استبعد رئيسه جيروم باول يوم الأربعاء الماضي إجراء تخفيض إضافي لأسعار الفائدة خلال العام الجاري بعد خفضها بمقدار ربع نقطة مئوية، مما أدى إلى نزوحٍ جماعي للمستثمرين من الأصول عالية المخاطر، وعلى رأسها العملات الرقمية، وتراجع العقود الآجلة لمؤشرات الأسهم الأميركية. وهذا الوضع النقدي يأتي في سياق تحذيرات من أن ارتفاع الديون العالمية قد يؤدي إلى أزمة مالية شاملة.

بتكوين: انخفاضٌ كبير... لكن هل يستمر؟

شهدت عملة بتكوين في العاشر من تشرين الأول الماضي انخفاضًا كبيرًا من نحو 126000 دولارًا إلى نحو 110000 دولار، قبل أن تشهد تعافيًا جزئيًا لساعات، حيث بلغت نحو 115000 دولار، لتعود وتنخفض من جديد، واستمرت على هذا المنوال طوال الأسابيع الماضية بعد الانهيار الحاد الأول، لتنخفض مجددًا في الثالث من تشرين الثاني الحالي إلى نحو 105000 دولار ثم في الرابع منه إلى ما دون الـ100 ألف دولار واليوم إلى 99 ألف دولار.

وقد توقّع مدير الاستثمار في شركة BitwiseInvest، مات هوغان، انخفاضًا أكبر في قيمة بتكوين إلى ما دون 100000 دولار، خصوصاً بعد مرور شهرٍ كامل على الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة والتباطؤ في إقرار قانون "كلاريتي"، القاضي بتنظيم الأصول الرقمية، بما في ذلك العملات المشفرة. لكنه أكّد على أن الانخفاض سيكون مؤقتًا، وسيتبعه تعافٍ طويل الأجل في سوق العملات المشفرة. أما تشارلز إدواردز، مؤسس شركة Capriole Investments، فأشار متشائمًا إلى انخفاض صافي مشتريات المؤسسات إلى ما دون المعروض اليومي المُستخرج من العملات الرقمية لأول مرة منذ سبعة أشهر. وأضاف في تغريدةٍ أخرى: "لدينا الآن 188 شركة خزانة تحمل أعباءً ثقيلةً دون نموذج أعمال، وعددًا أقل بكثير من المستثمرين المؤسسيين".

ارتدادات انهيار تشرين الأول أم ركودٌ مزمن؟

اللافت أن القيمة السوقية الإجمالية لسوق العملات المشفرة وصلت إلى رقمٍ قياسي تاريخي قبل أربعة أيام من الانهيار الأول المفاجئ في تشرين الأول الماضي، حيث بلغت نحو 4.4 تريليون دولار، بزيادة نحو تريليون دولار خلال 10 أشهر فقط، وبلغ سعر عملة بتكوين نحو 126000 دولار، وسط ارتفاع غير مسبوق في قيمة العملات البديلة (altcoins)، وانخفاضٍ في سعر الدولار الأميركي مقابل سعر عملة تيثر (USDT) وصل إلى 0.9954 قبل دقائق من بدء الانهيار المتسارع، الذي تسبب بانخفاض القيمة السوقية بنحو 1.3 تريليون دولار. 

أما اليوم، فلم يشهد السوق تضخمًا قبل التراجع الإضافي الكبير في الأسعار، بل العكس، حيث يتزايد تراجع السيولة في السوق الذي يستمر في الانكماش منذ الانهيار الأول، ما ينذر بحالة ركودٍ ربما تكون طويلة الأمد، ويُرجِّح حدوث تراجعات إضافية، رغم بعض التوقعات المتفائلة للعام 2026.

مفارقةٌ أخرى أيضًا، هي ارتفاع سعر الذهب بشكلٍ قياسي خلال انهيار تشرين الأول، حيث بلغ أعلى مستوى له عند حوالي 4379 دولارًا للأونصة، في ظل بحث المستثمرين عن ملاذات آمنة، وزيادة طلب البنوك المركزية على الذهب، إضافة إلى توقعات خفض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. أما خلال التراجع الحاد في الأسعار في نشرين الثاني، فإن سعر الذهب شهد انخفاضًا نسبيًا، بعد فترة من التراجع، حيث بلغ 3979 دولارًا للأونصة، ما يعكس تحول المستثمرين من الملاذات الآمنة التقليدية إلى السيولة النقدية لتعويض خسائر العملات المشفرة، في ظل تراجع للتوقعات حول خفض أسعار الفائدة، مما يمكن أيضًا أن يدفع المستثمرين إلى شراء سندات الخزينة الأميركية بدلًا من الذهب.

فهل نحن أمام انهيارٍ مؤقت لسوق العملات المشفرة أم بداية انهيار مالي أوسع يطال جميع الأسواق المالية وسط التغيرات الكبيرة التي تشهدها الملاذات الآمنة والمخاطر والتقلّبات المتزايدة في الأسواق التقليدية؟