شح مياه بيروت وجبل لبنان: "الجبرانان" وسدّ جنّة الفضائحي

يعيش اللبنانيون من "قلة الموت"، في ظروف لا تتوفر فيها أبسط مقومات الحياة. وبعد الكهرباء، جاء دور المياه، مع تهديد مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان بالانقطاع الكلي لمياه الشفة عن مستهلكيها، ليس لأنه "لا مياه" في "بلد المياه"، بل لأنه كان لا بد لسياسات وزارة الطاقة والمياه، أن تجلب الدمار لقطاع المياه بعدما دمرت قطاع الكهرباء.

مليونان و500 ألف مشترك، سيحرمون قريباً من وصول المياه الشرب لمنازلهم. فبأحسن الأحوال "ستصل المياه إلى 20% من مناطق بيروت وجبل لبنان"، وفق ما أعلن مدير عام مؤسسة المياه جان جبران، رابطاً الحل بشرط فوري هو موافقة وزير الطاقة وليد فياض على تأمين المازوت للمؤسسة عبر منشآت النفط، لتشغيل مضخات المياه، تزامناً مع توقف مصرف لبنان عن تحويل أموال مؤسسة مياه بيروت إلى الدولار. أما الشرط الأبعد الذي تمهد له المؤسسة، فهو الاتجاه لدولرة الجباية.

وحجة المؤسسة للدولرة هي "الانهيار" بطبيعة الحال. لكن، ألا يحق لمشتركيها سؤالها عما فعلت بأموالهم "أيام العز"، سيما وأنها مؤسسة المياه "الأغنى" مالياً في لبنان، مع أعلى نسبة جباية وأعلى عدد مشتركين ووفر مالي عمره عقود؟

وفر "حلي بعين" وزير الطاقة السابق جبران باسيل، فموّل منه "سد جنة" عام 2013 عبر مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، مع أن إقامة السدود من صلاحيات وزارة الطاقة، فصرفت المؤسسة ما يزيد عن 300 مليون دولار، من أموال مشتركيها، عن غير وجه حق.

وبحجة تأمين المياه عبر السدود، ضيعت المؤسسة مشروعاً لمعالجة الهدر بنسبة 30% في نقل المياه من نبع جعيتا إلى محطة ضبيه، كان ليلبي حاجة بيروت الكبرى الكاملة من المياه. والأنكى، تلكؤها عن تأهيل شبكات التوزيع التي يصل الهدر فيها إلى 50%، علماً أن تأهيل الشبكات يأتي في صلب مهامها، على عكس السد الذي لم يبصر النور بعد.

مؤسسة "انترناسيونال"
من سابع سما لسابع أرض، هذا حال مؤسسة بيروت وجبل لبنان، الذي توحي به هي على الأقلّ. أما أموال الجهات المانحة، وهي مشاريع بملايين الدولارات، فتصفها مصادر المؤسسة لـ"المدن" بـ"جرعة إنعاش للمؤسسة، تبقيها على قيد الحياة ريثما يأتي الحل الشامل لوقف الانهيار".

وتفخر مصادر المؤسسة باستراتيجية متماسكة وضعها مدير عام المؤسسة جان جبران منذ أن أتى على رأس الإدارة، لكنّ خطته اصطدمت "بالانهيار". ولا تكتفي بتحميل الأزمة عبء "احتضار" المؤسسة، بل ترى أنه لولا الانهيار، لكانت رؤية جبران لتحوّلت مياه بيروت وجبل لبنان إلى "مؤسسة انترناسيونال".

بدوره، لا ينكر المدير العام السابق لمديرية الاستثمار في الوزارة غسان بيضون أن هناك صعوبة لدى كل الإدارات والمؤسسات في تأمين نفقاتها بالدولار في حين أن الجباية بالليرة، لكنّ مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان هي أكثر مؤسسة "تُسأل" عمّا فعلت بوفرها من الجباية في العقود والسنوات الماضية.

فالمؤسسة هي الأغنى بين مؤسسات المياه إن لناحية عدد المشتركين أو قدرتهم الاستهلاكية، ولديها وفر عمره عقود يمكّنها من الصمود ذاتياً لأطول فترة ممكنة رغم الانهيار.

يرفض بيضون مبدأ "إما تعطونا دولار أو منوقف توزيع الماء"، ويرى فيه ابتزازا تراد منه الدولرة، وهو ما يذكره بوزراء الطاقة وتهديداتهم بقطع الكهرباء، غير مستغرب أن تأتي النغمة نفسها من مؤسسة تحت وصاية الوزارة عينها.

أما حل تشغيل المضخات لضمان توزيع المياه فسهل برأيه، طالما أن منشآت النفط تحت وصاية الوزير نفسه، ولا شيء يمنعها من قبول قبض ثمن المازوت بالليرة، عوض استجداء الحلول من جيب المواطن ومخالفة القانون، فاشتراكاتنا مع المؤسسة بالليرة والدولرة بدعة اخترعها وزير الاقتصاد.

امتداد لسياسات جبران
وفي حين توحي المؤسسة بأن حسابها صفر بعد الشروع بسد جنة، يعلق بيضون، على فرض أنها صادقة بشح وفرها: "إذاً فالسبب سد جنة".

ومؤسسات المياه تدفع ثمن سياسات وزراء الطاقة المتعاقبين، فتشتري المازوت لتشغيل المضخات في ظل نقص التغذية الكهربائية. لكنّ مياه بيروت وجبل لبنان، تدفع كذلك ثمن استراتيجية الوزير باسيل الوطنية للمياه عام 2012، التي لم تكن أقل كارثية من حلوله للكهرباء. فتدخله بالمؤسسة كوزير وصاية، جاء من بوابة تمويلها نفقات مشروع سد جنة-نهر ابراهيم، تهرباً من الرقابة على المشروع.
وبعيداً عن الأثر البيئي السلبي للسد، كان هناك أثر مالي باهظ، تدفعه المؤسسة إلى اليوم. فوفقاً لقانون المياه رقم 221، فإن إنشاء السدود هو مسؤولية وزارة الطاقة، التي "تتولى تصميم ودرس وتنفيذ المنشآت المائية الكبرى كالسدود.. ووضعها في الاستثمار".

والسد المتوقفة الأعمال به اليوم على وقع الانهيار، بدأ العمل به عام 2013 على ان ينتهي في 4 سنوات، لكنه لم ينته، مستنزفاً أكثر من نصف مليار دولار وفق التقديرات، بين أعمال واستملاكات واستشارات. فلماذا جنى باسيل على أموال الجباية لمشتركي بيروت وجبل لبنان، لسد فاشل كغالبية سدود الوزارة، وليس إنشاؤه من مسؤولية مياه بيروت وجبل لبنان؟

نسأل الناشط البيئي بول أبي راشد، عن السد الذي حسب قوله: لو تم تنفيذه، فلن يجمع المياه إلا بنسب قليلة، لطبيعة الأرض الكارستية فيه، عدا عن مخاطر زلزالية لركونه فوق 3 فوالق. نسأله عن سبب فشل الحملة التي قيدت ضد السد، على عكس حملة سد بسري، فيحمّل التسوية الرئاسية عون-الحريري تثبيت المشروع عام 2016 وإستكماله على الرغم من قرار وزير البيئة عام 2015 محمد المشنوق، الذي أقر بأنه "لا يمكن استكمال الأعمال بسد جنة وبحيرة جنة في ضوء المخاطر البيئية التي برزت"، انطلاقاً من دراسة أثر بيئي عنGICOME  جاءت سلبية بشتى المعايير.

للمافيا قدرة على اشتمام السدود، لأن المحاصصة فيها "محرزة" على عكس الاستفادة من المياه الجوفية التي يغتني بها لبنان، يقول أبي راشد، وهو ما يتضح عند التنقيب عن الشركات المحلية التي شاركت في المشروع إلى جانب الشركة البرازيلية Andrade Gutierrez، المتعهدة أعمال الحفر وتنفيذ الأشغال.

جان جبران والسد.. و10 ملايين دولار
يتنصل جان جبران، مدير عام مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان اليوم، من مرحلة السد، فهو أتى بعدها. لكنه كان يوم إنشاء السد مستشاراً لباسيل، وكان كذلك عضواً في لجنة سد جنة التي اختارت الشركات المحلية، ويتجلى تضارب المصالح، بكونه مديراً سابقاً بفترة وجيزة لشركة الاتحاد، إحدى الشركات التي التزمت أعمالاً في السد. ويضع الناشطون ضد سد جنة، تعيينه على رأس مؤسسة مياه بيروت في خانة ضمان استكمال المشروع.

إلا أن موقف جان جبران الواضح من السد، تجلى بدفع مؤسسة المياه بتاريخ 25/7/2019، أي في أوج الانهيار الذي لم يكن معلناً بعد، تعويضاً بقيمة 10 ملايين دولار، لشركة Andrade Gutierrez بحجة التعويض عن "عراقيل وتأخير في التنفيذ"، واجهتها الشركة، وهو ما جعل جبران يواجه استدعاءه لدى المدعي العام المالي علي ابراهيم بعد أشهر.

على حساب الحلول
ويضع أبي راشد فشل سد جنة من ضمن سياسة السدود عموماً. ففي بلد غني بالمياه الجوفية لا السطحية، أتى سد جنة على حساب إهمال مشروع لا يتخطى الـ53 مليون دولار، طرحه عام 2012 معهد GBR الألماني، قوامه تطوير استجرار المياه من نبع جعيتا من خلال معالجة هدر 30% الحاصل في النقل لمحطة ضبية الأساسية التي تكرر المياه ثم توزعها للمناطق، وإنشاء ناقل ثان من النبع إلى المحطة، وهو ما يضمن حاجة بيروت الكبرى من المياه، وفق الدراسة. إلا أن الحلول غير المكلفة "ليست جاذبة" للمحاصصة السياسية. وهو ما يبرر برأيه تفضيل السد على مشروع جعيتا.

الأسوأ من إهمال هذا المشروع، عدم معالجة مؤسسة مياه بيروت للهدر والتعديات على شبكات المياه، المهترئة بمعظمها. ويصل الهدر بالمياه إلى مستوى اجمالي 48%، وهي نسبة كبيرة مقارنة بنسبة 15% المسموح بها عالمياً.

وتجديد الشبكات والمنشآت، يأتي في صلب النظام الماليّ للمؤسسة، وفق ما يشرح بيضون لـ"المدن"، حيث يطلب منها تحييد مبلغ من الوفر يسمى "مال الاحتياط"، بحساب خاص، كمصاريف لإعادة تأهيل شبكاتها، وذلك بقيمة استهلاك منشآتها.

المحاسبة قبل الجباية؟
ولا مهرب من رفع قيمة الجباية في منتهى المطاف بمعزل عن الدولرة، لكن السؤال الملح: هل يدفع المشتركون ثمن سياسة الهدر في مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان؟ ومن يحاسب عن الفترة السابقة؟

بدوره يدعو أبي راشد إلى "عصيان مدني ايجابي"، فمحاسبة المسؤولين تأتي أولاً، وبعدها "نتجرأ" على دفع ضرائبنا من دون الخوف من ذهاب أموالنا لسياسات غير مجدية إلا للسياسيين.

وبما أن سلطة الوصاية على مؤسسات المياه، هي وزارة الطاقة، التي لن تعاقب نفسها عن توريطها لمياه بيروت بدفع نفقات سد جنة بطبيعة الحال، يرى بيضون من جهته بأن حجم الهدر والفساد يتطلب لجنة تحقيق برلمانية في ملفات وزارة الطاقة جميعها، بما فيها مؤسسات المياه وملفات السدود.

وليست المحاسبة مطلباً بعيداً عن المشتركين، فبيان عالي اللهجة لرؤساء بلديات كسروان-الفتوح، حذروا فيه من ملاقاة المشتركين بعدم تسديد الفواتير إذا بقيت التغذية بالمياه غير جدية.

ويبدو أن مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان بتهديدها بالدولرة أو قطع المياه عن بيروت وجبل لبنان، فتحت أبواب جهنم المغلقة بوجهها، بدءاً من "سد جنة".