صراع السلاح والدولة في ظل المتغيّرات الإقليمية

لم يعد الهجوم على رئيس الحكومة اللبناني نواف سلام يقتصر على تصريحات مسؤولين في حزب الله او بعض "البيئة" او "الأهالي" او "الجمهور … إلى ما هنالك من تسميات مقنعة للحزب، بل تعداه إلى تنشيط خلية الفبركة او القوة التشبيحية التي من مهماتها تغيير ما قاله او اجتزاؤه ووضعه في غير سياقه لتبدأ "حفلة الزجل" او كما يقول اخواننا المصريين "اللي يحب النبي يضرب".

لم يعد مستغربا لكيان تهافت خطابه كله ان ينحدر مستوى المواقف الرسمية والشعبية إلى هذا المنحدر وهو للأسف يكاد يتشابه مع خطاب "المحبكجية" الذي كانت ميليشيات الهارب بشار الاسد تمارسه علنا امام شاشات التلفزة حيث تتهم شخصا بقول ما لم يقله ثم تحجب غزارة ردود الفعل اي رد منطقي من قبل الشخص مدفوعة بسياق الشعارات التاريخية البعثية مع فارق السياق الشرعي المذهبي في لبنان .

التحريف المتعمّد لتصريحات نواف سلام خلال مقابلته مع قناة CNN. سبقه تحريف تحريضي اكثر غرابة عندما سئل رئيس الحكومة عن الشتائم التي كيلت له في المدينة الرياضية ثم اعتذار الحزب فرد بقاعدة رمزية شرعية مفادها : لا تزني ولا تتصدقي. اي لا ترتكب الخطأ ولا تعتذر عنه. فورا تحركت خلية الفبركة للإيحاء للجمهور بأن سلام يتهم البيئة بالزنا وهو التحريف الذي لا ينطلي على اي مستخدم لعقله باستثناء من قرر الغاء عقله.

في مقابلة cnn أكّد نواف سلام بشكل واضح أن طريق السلام يبدأ بتحرير الأرض وبحل الدولتين، وهو موقف ينسجم تمامًا مع المبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في قمة بيروت عام 2002 ووافقت عليها جميع الدول العربية، بما فيها فلسطين. غير أن التصريح جرى اقتطاعه من سياقه واستخدامه كذريعة لتأليب الرأي العام ضد سلام، تحت عنوان "التطبيع".

الحملة على سلام ليست منفصلة عن مواقفه السياسية الواضحة، وأبرزها إعلانه أن الوقت قد حان لحصر السلاح بيد الدولة، وهو موقف ينطلق من اتفاق الطائف، ومن البيان الوزاري الذي نال ثقة البرلمان، والذي وافق عليه "حزب الله" نفسه في مراحل سابقة.

ليست مشكلة نواف سلام ان الحزب صار علنا يعترف بأنه يقطع الوقت بانتظار تطور إقليمي او اتفاق أميركي إيراني وان كل ما وافق عليه كان من باب التورية لاستعادة الأنفاس.

وليست مشكلة نواف سلام ان من تسبب بشكل مباشر في تدمير الجنوب عبر حرب الإسناد يريد تحويل السخط الشعبي والوطني إلى مكان آخر عبر افتعال نظرية أن من في السلطة حاليا هم المسؤولون عن عدم الإعمار ووصول مساعدات وانسحاب إسرائيل .

ليس سرا ان الحزب عاد إلى التملص من التزاماته، مستخدمًا خطابًا يُذكّر بمراحل سابقة من التعطيل السياسي في البلاد، النائب حسن فضل الله قالها بوضوح: "لا احد يناقشنا بشيء قبل الانسحاب الاسرائيلي من ارضنا، ووقف الاعتداءات، وتحرير الأسرى واعادة الاعمار ومن ثم يمكن ان نناقش استراتيجية الدفاع الوطني". وهذا يعني عمليًا أن مسألة البحث في سلاح الحزب ليست مطروحة حتى للنقاش .

لكن السؤال المطروح هو: لماذا هذا الهجوم الحاد على نواف سلام تحديدًا، في حين أن مواقف رئيس الجمهورية جوزاف عون، هي نفسها ولكن نرى أن نواب الحزب يثنون على دوره كما يظهرون ودا كبيرا تجاهه في كل مناسبة؟

 الجواب على الأرجح يتصل بطبيعة المرحلة وهو وان كان الحزب يفرق عمليا بين الرجلين الآن من باب فرق تسد إلا ان الهجوم على رئيس الجمهورية قد يحصل في اي لحظة ولا ينسى احد ماذا قيل في حق الرئيس عندما رفض سيادة حالة في لبنان شبيهة بالحشد الشعبي في العراق.

نواف سلام على رأس حكومة ستدير البلاد خلال العام المقبل، وهي مرحلة حسّاسة على كل الصعد، خصوصًا في ما يتعلق بالإصلاحات والمفاوضات مع الخارج. ووجود شخصية مستقلة وذات خطاب سيادي واضح في هذا الموقع يشكل تحديًا مباشرًا لنفوذ "حزب الله".

وثمّة تبدلات إقليمية هائلة، اهمها تقدم الدور العربي بقيادة السعودية، خصوصاً بعد زوال نظام الأسد، على دور محور الممانعة بقيادة ايران (الذي انتهى عمليا)، وهو ما لا يُريح الحزب الذي يَعتبر أن هذا التغيير في موازين القوى الإقليمية ينعكس داخليًا على موقعه.

 كما علينا التوقف عند الرسائل المهمة ، مثل الاحتضان الخليجي لسوريا الجديدة ماليا وسياسيا والمساعدة في العلاقات الدولية ومد الجسور التي دمرتها ايران عبر المنفذ السوري سابقا.

الحملة على الرئيس نواف سلام ليست خلافًا سياسيًا عابرًا، بل هي مؤشر على صراع عميق بين من يريد دولة فعلية ذات سيادة، وبين من يتمسك بمنطق الدويلة والسلاح الموازي. سلام لم يدعُ إلى التطبيع، بل كرّر موقفًا عربيًا جامعًا. ولم يخرج عن الدستور، بل طالب بتطبيقه، وفق ما ينص عليه اتفاق الطائف.
الاستهداف الممنهج له، يشي بأن المعركة الحقيقية هي مع مشروع الدولة، لا مع شخص نواف سلام، وهذا ما سيحدد مسار المرحلة المقبلة: هل تنتصر الدولة، أم يُعاد إنتاج التعطيل والتخوين كسلاح سياسي لعرقلة أي مسار إصلاحي؟