صيف لبنان الموعود... تسونامي زوار وفرح وليلٌ لا ينام

شكّل صيف 2022 شعلةَ أمل حقيقية انتشلتْ البلادَ من حالة الركود التي كانت تعيشها وأعطتْها دفعاً اقتصادياً ومالياً وحياتياً كانت في أمسّ الحاجة إليه.

ومع بوادر صيف 2023 تزداد الشعلة توهُّجاً لـ «تشتعل» معها كافة المناطق اللبنانية مع انتظارِ وصول أكثر من مليون و 200 ألف زائر الى «بلاد الأرز» هذا الموسم وفق تأكيدات وزارة السياحة اللبنانية ومكاتب حجوز الطيران.
الكل يستعدّ لموسمٍ سياحي ممتاز تحت شعار «أهلا بهالطلة أهلا» الذي يجسّد النجاح الكبير الذي حققتْه حملة الصيف الماضي ويلخّص لهفة اللبنانيين واستعدادهم لاستقبال زوّارهم بموسم «ولعان».

وفيما لبنان الرسمي مشغولٌ بمحاولاتِ حبْك تقاطعاتٍ سياسية لانتخاب رئيسٍ للجمهورية يبدو الشعب اللبناني في مكان آخَر، يتهيأ لصيف سياحي بامتياز ويدير ظهره لكل النَكَد السياسي، ليعيش مع زوّاره «تسونامي» من الفرح والحماس وحبّ الحياة.

هي معجزةٌ تتكرّر كل صيف وكأن الأزمات «تُجَوْهِر» أهلَ لبنان وتجعلهم أكثر تمسكاً بالحياة، أو أنهم في غياب الرؤية الرسمية للحلول يعتمدون على أنفسهم وما يتمتّع به بلدهم الصغير من مزايا ليتمكّنوا من الصمود والاستمرار. صيف لبنان لا ينضب الحديث عنه، يزداد ألقاً عاماً بعد عام ولا يخذل أبناءه كما تخذلهم السياسة في البلد.

نشاطات سياحية بالجملة

المهرجانات الدولية التي شكّلت علامةً فارقةً بموسم الصيف في لبنان تعود بزخم هذا الموسم، ومنها مهرجانات بعلبك وبيت الدين التي تم الإعلان عن برامجها التي تجمع بين الفن المحلي والعالمي ومعها ينطلق برنامج حافل لأكثر من 82 مهرجاناً ونشاطاً سياحياً في مختلف المناطق اللبنانية. ويصادف حلول عيد الأضحى المبارك مع بداية الصيف مناسبةً لفورة الحفلات الفنية التي تستقطب كبار نجوم لبنان وكذلك نجوم مصر والعالم العربي، وكأن «بلاد الأرز» بمساحتها الصغيرة صارت مَسْرحاً لا لصراعاتِ الأمم كما تعوّدتْ بل لفنانيها وكل محبي الفن فيها.

ولا تقتصر الحفلات على عيد الأضحى بل تمتدّ على كل أشهر الصيف وتتوزّع بين العاصمة بيروت والمناطق الساحلية والجبلية لتساهم في تشغيل عدد كبير من القطاعات التقنية، من صوت وإضاءة ومؤثرات إضافة إلى مكاتب حجز التذاكر والمضيفات والمضيفين وخدمة ركْن السيارات وبيع الأطعمة السريعة وغيرها.

مكاتب السفر استكملتْ استعداداتها التي لم تنقطع منذ نهاية الصيف الماضي لتواكب موسم 2023 بالتعاون الحثيث مع وزارة السياحة. وتشرح السيدة لينا سنو المديرة العامة لنقابات السياحة والسفر لـ «الراي» الدور الكبير الذي تلعبه هذه الوكالات في تسويق لبنان في الخارج وتأمين أفضل الشروط لزيارة السياح بالتعاون مع غالبية شركات الطيران.

باكراً بدأتْ النقاباتُ نشاطاتها التسويقية لتسليط الضوءِ على كنوز لبنان المهمَلة ومناطقه الطبيعية والتراثية والتاريخية المهمة التي لا تزال بعيدة عن المسارات السياحية وذلك لضمان توزيع النشاط السياحي على مختلف المناطق وعدم حصره في النقاط المعهودة فقط. لكن النقابات السياحية على اختلافها تواجه تحدياتٍ كبيرةً أبرزها النشاطات غير المشروعة لبعض مَن يدّعي أنه مكاتب سياحية حيث يُغْري السياح بأسعار متدنية ويعِدهم بزيارات وهمية. ولذلك قبل انطلاق الموسم أعدّت النقابات السياحية مؤتمراً لوضع خطط للحدّ من هذه النشاطات التي تسيء الى لبنان وزواره.

نشاطاتٌ كثيرة في موسم سياحي يُتوقَّع أن يوازي مردوده 3 مليارات دولار أميركي في بلدٍ يبحث «بالسراج والفتيلة» عن مدخولٍ بالعملة الأجنبية ويكاد يستجْدي المؤسسات المالية العالمية من أجل ذلك. ولا شك في أن وزارة السياحة والنقابات السياحية على اختلافها تعمل بكل طاقتها لإنجاح هذا الموسم، لكن القطاع الخاص بدوره جنّد نفسه للاستفادة من الموسم السياحي لمعاودة تعويم مؤسساته التي عاشت قحطاً مالياً منذ أزمة 2019 وبعد انفجار المرفأ في 4 اغسطس 2020 وأزمة كورونا. ولم يعد هذا القطاع خائفاً من استثمار الأموال في مشاريع سياحية جديدة تَعِدْ بأن تكون مُرْبِحَةً رغم كل المخاوف والشكوك.

كثيرة المشاريع السياحية التي رأتْ النور استعداداً لموسم 2023 وتستعدّ نحو 250 مؤسسة سياحية من مطاعم ومقاهي وملاه ليلية وبيوت ضيافة لافتتاح أو إعادة افتتاح أبوابها على كامل الأراضي اللبنانية هذا الصيف، وفق ما تقول السيدة مايا بخعازي نون أمينة سر نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والباتسري والملاهي الليلية.

ويقول لـ «الراي» أنطوني خضرا الذي افتتح أخيراً ملهى ليلياً في منطقة جونية: «كان لا بدّ من مواكبة الموسم السياحي وافتتاح مشروع كبير يشكل علامة فارقة في عالم السهر رغم كل المخاوف. لا يمكننا أن نتفرج من بعيد نحن الذين نعمل في هذا المجال بل علينا اغتنام الفرصة لأنها مبشِّرة وواعدة. ورغم الكلفة الكبيرة لتجهيز الملهى، لم نتردّد لأننا واثقون من أننا قادرون على استعادة ما تكبّدناه من تكاليف في المواسم المقبلة. خبْرتنا في قطاع المطاعم أعطتْنا المهارات اللازمة لإنجاح اي مشروع من هذا النوع. وفي رأيي أن مَن يقول أن المطاعم أو الملاهي في لبنان هي مشاريع خاسرة يكون مخطئاً ولا يملك الخبرةَ الضرورية لإدارة مشروع كهذا. نحن كأصحاب خبرة نضاهي أهمّ الملاهي العالمية بتجهيزاتنا وخدماتنا وتقديماتنا، وكل السواح والمغتربين باتوا يعرفون هذا الأمر ويقصدون لبنان من أجل الحياة الليلية فيه».

لبنان عاصمة الحياة الليلية

وتستعدّ الملاهي الليلية المنتشرة في المناطق السياحية بين بيروت وساحل المتن وجونية والكسليك وجبيل والبترون وفقرا وغيرها لاستقبال الرواد في أماكن غيرمعهودة مثل سطوح المباني والمنشآت السياحية أو عند أقدام الشاطئ لتؤمن لروادها تجربةً ترفيهية في إطار طبيعي ساحر.

ولم يَعُدْ مستغرَباً استغلال كل المساحات المتوافرة قرب الشاطئ لتحويلها الى مقاه وملاه ليلية بحيث تبدأ الجلسة مع مغيب الشمس وتستمر حتى طلوع الفجر في أجواء من الموسيقى الشرقية والغربية والرقص يعشقها زوار لبنان وباتت إحدى علاماته الفارقة. وتقول السيدة مايا نون إن هذه الملاهي التي عانت أكثر من سواها وتوقّف عملها بشكل شبه كلي سابقاً تستعيد نشاطها بزخم رغم الكلفة التشغيلية العالية لها.

أما المطاعم، فهي تشكل الركيزة الأساسية للموسم السياحي. ووفق النقابة فإن عددها عاد ليقارب 5000 مؤسسة بعدما كان تراجع كثيراً بدءاً من العام 2019 ليعود الى التصاعد في 2022 وهذه السنة، وإن لم يبلغ بعد الذروة التي كان عليها قبل الأزمة والتي بلغت نحو 8500 مؤسسة.

ومواكبةً لشهرة المطبخ اللبناني عالمياً، تحاول المطاعم التميّز في تقديماتها إن من حيث الموقع أو الديكور أو التجهيزات أو من حيث المضمون بحيث بات لبنان يجمع على أرضه المطابخ العالمية على تنوُّعها ويرتقي بمأكولاته المحلية الى آفاق جديدة من التميز والتجدد. وما الفيديوات التي تَنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لسواح أجانب يشيدون بالمطبخ اللبناني ويضعونه ضمن الأشهر عالمياً إلا خير دليل على الجهد الذي تقوم به المطاعم من أجل التميّز بأطباقها وتقديماتها والجمع بين الجودة والنوعية وحسن الضيافة.

والجدير ذكره وفق السيدة نون أن المطاعم لم تعد محصورة في مناطق معينة بل باتت منتشرة على مختلف الأراضي اللبنانية لتشكل حلقة متكاملة بين السياحة الريفية وبيوت الضيافة والفنادق والرحلات الداخلية بحيث يجد السائح أينما تَواجد مطاعم تمنحه تجربةً مميزة يسعى أصحاب المطاعم لتأمينها من اللحم الحي وبكلفة مرتفعة، في حين كان يُفترض بالدولة تأمين الماء والكهرباء والإنترنت وإزالة النفايات وغيرها من خدمات البنى التحتية التي لا يقوم بلد ولا سياحة من دونها.

سياحة في الريف

وصيف لبنان الواعد لا يكتمل من دون وجه جديد من أوجه السياحة وهو السياحة الريفية أو البيئية التي كسرتْ نَمَطية الوجهات السياحية التي كانت سائدة سابقاً وأطلقت العنان لتجارب سياحية رائعة تلقى إقبالاً شديداً من السواح الأجانب والعرب بشكل خاص. فقد أدرك اللبنانيون في الأعوام الأخيرة روعةَ بلدهم وتَنَوُّع مناظره الطبيعية وغناها، ولذا سعوا الى استغلال هذه الهبة الطبيعية على صعيد السياحة فنشأتْ حولها مجموعة من النشاطات السياحية والترفيهية التي ساهمت الفيديوات المنشورة لها من قبل مؤثّرين محليين وعالميين بتسويقها على أفضل وجه.

مشاريعُ كثيرة باتت تملأ قرى لبنان وبلداته الريفية البعيدة حتى تلك التي كانت بالأمس القريب مهمَلة. بيوت تراثية موروثة تتحوّل الى بيوت ضيافة فاق عددها 150 بيتاً تقدّم تجربة الضيافة اللبنانية بأرقى صورها وبمستويات مختلفة تناسب ميزانية الضيوف وأهل البيت. وتشهد هذه البيوت حجوزاً مكتملة لصيف 2023 تطال اشهر الصيف حتى سبتمبر. وغالبيتها يؤمّن الى جانب الإقامة نشاطات بيئية مختلفة مثل السير في الطبيعة والتعرف الى الحياة البرية والنبات والحيوانات وحتى المونة اللبنانية.

أما مشاريع بيوت العطلة فتواكب صيف لبنان وشتاءه، وقد بدأت تغزو القرى بيوتٌ خشبية صغيرة تندسّ وسط البساتين و الأحراج، و«عرازيل» تتسلق الأشجار لتشكل ملاذاً طبيعياً ساحراً لكل الزوار الراغبين في الاستمتاع بتجربة هادئة وسط الطبيعة.

وبعيداً عن القرى وعلى ساحل لبنان المشمس، أخرجت المنتجعات البحرية أجمل ما عندها من وسائل راحة وترفيه وجذب للسياح لتقارع بذلك الريفييرا الفرنسية أو إيبيزا الأسبانية بتقديماتها ومناظرها وروادها وإن لم تستطع حتى اليوم أن تواكب الدول المجاورة مثل تركيا وقبرص في الأسعار.

ومَن يَزُر لبنان هذا الصيف سيتفاجأ بعدد المكاتب والمؤسسات التي تُعنى بتأمين رحلاتٍ داخل لبنان ضمن أفضل الشروط سواء بالسعر أو بالوجهات التي تعتمدها. سيرٌ في الطبيعة وسط مساراتٍ مدروسة وآمنة، ومناظر تشبه الخيال أو رحلة في الباص الى مناطق نائية تكتنز مناظر رائعة وتشكل إطاراً لأجمل صور السيلفي والفيديوات التي يعشقها السواح عادة.

هكذا هو صيف لبنان، يعد بالكثير من المتعة والفرح في استراحةٍ للوطن المأزوم من نكباته، ولزواره الذين لطالما احتضنهم على أنهم «الحبايب». أما أسعاره فالكل يجد فيها ما يرضيه، من مشوارٍ مجاني قرب الشلال أو وسط بحيرة لازوردية، الى رحلة بالباص الى نهر العاصي وتجربة التجذيف في مَجْراه، إلى سهرةٍ حتى الصبح على سطح مبنى يطلّ على بيروت، وإقامة مرفّهة في فنادقه – النجوم... إنه لبنان الحياة الذي يصرّ على فعل الحياة والفرح والصمود... against all odds !