المصدر: المدن
الكاتب: ندى اندراوس
الجمعة 17 تشرين الأول 2025 00:45:11
تبلورت ملامح موقف رئيس الجمهورية جوزاف عون في مرحلة إقليمية دقيقة، يتقدّم فيها خيار التسويات على خيار الحروب، وفق قراءة دقيقة يجريها عون للمشهدين الإقليمي والدولي. فالرئيس، بحسب ما أفادت أوساطه لـ"المدن"، يتابع عن كثب مجريات المنطقة، ويجري تقويماً هادئاً لما تشهده من تحوّلات متسارعة، ليخلص إلى اقتناع واضح مفاده أنّ زمن الحروب المفتوحة إنتهى، وأنّ التفاوض، إنما غير المباشر، هو السبيل الوحيد إلى تحقيق نتائج مستدامة.
من تجربة الحرب إلى منطق التسوية
يرى الرئيس جوزاف عون أنّ خيار الحرب، الذي جرّب في لبنان وغزة ودول أخرى، لم يؤدِّ إلى أي نتيجة حاسمة. لا إسرائيل إستطاعت أن تكسر حركة حماس كما كانت تهدف في حربها على غزة، ولا حماس نجحت في كسر إسرائيل. والأمر ذاته ينسحب على لبنان، حيث يتأرجح الوضع بين إعتداءات إسرائيلية وإغتيالات وخروقات وإحتلالات متفرقة، في ظلّ إمتناع حزب الله عن الردّ المباشر.
من هذا المنطلق، يرى رئيس الجمهورية أنّ بين حربٍ لا نهاية لها ولا نتيجة، وخيار تفاوضي قد يفضي إلى حلول، فإنّ التفاوض بات خياراً واقعياً وضرورياً. ويؤكد أنّ المناخ الدولي، أميركياً وأوروبياً وعربياً، يشجع على هذا المسار، مشدداً على أنّ لبنان مستعدّ للدخول في مفاوضات غير مباشرة برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة، تماماً كما جرى في تجربة ترسيم الحدود البحرية.
الترسيم البحري نموذج
يستعيد الرئيس جوزاف عون تجربة الترسيم البحري كمثال على جدوى التفاوض غير المباشر. فبعد سنوات من الخلافات حول خطوط الترسيم، بين مقترح فريدريك هوف وخطّي الـ29 والـ23، تمكّن لبنان من التوصل إلى إتفاق بوساطة الموفد الأميركي آموس هوكستين وبرعاية الأمم المتحدة. وقد أعلن الاتفاق من الناقورة، وأدى إلى إستقرارٍ بحري غير مسبوق، إذ صمد الاتفاق حتى خلال حرب الأيام الـ66، حيث لم تُسجّل أي إعتداءات إسرائيلية على الحقول النفطية اللبنانية أو العكس.
ويعتبر الرئيس أنّ نجاح تجربة الترسيم يؤكد إمكان تكرارها برعاية دولية، شرط أن تكون المفاوضات غير مباشرة، وهو ما يشدد عليه عون رفضاً لأي تواصل مباشر مع إسرائيل.
شروط التفاوض ومسار ما بعد الحرب
لكنّ الانخراط في مسار تفاوضي يحتاج، بحسب رئيس الجمهورية، إلى بيئة آمنة ومستقرة. وهذا يعني أنّ على إسرائيل أن تبادر إلى الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، ووقف عملياتها الحربية ضد لبنان، إضافة إلى إعادة الأسرى. هذه الخطوات، برأيه، تمهّد تلقائياً لإطلاق مفاوضات غير مباشرة برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة، ولا سيما أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يلعب حالياً دوراً محورياً على مستوى المنطقة.
ويضيف عون أنّ هناك قضايا عالقة يمكن معالجتها ضمن هذا الإطار، من بينها تصحيح الخط الأزرق، وحسم النقاط المختلف عليها، ولا سيما النقطة B1 في رأس الناقورة، بما يخلق مناخاً إيجابياً يسمح بانطلاق العملية التفاوضية.
دعم دولي يثبّت موقع الرئاسة
موقف الرئيس عون، الذي جاء في لحظة حساسة، حظي بإرتياح ملحوظ من العواصم الغربية والعربية. فبحسب المعلومات، تبلّغ لبنان إشارات إرتياح أميركية وأوروبية لمبادرة الرئيس وخياره التفاوضي. وقد عزّز هذا المناخ موقف عون على الساحة الداخلية والخارجية، خصوصاً بعد كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي إمتدح الخطوات اللبنانية، وذكر لبنان في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي، مشيداً بالإجراءات التي يتخذها. هذا الموقف، كما تقول أوساط قصر بعبدا، قطع الطريق أمام الحملات التي حاولت التشكيك بعلاقة عون بالإدارة الأميركية.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإن لم يذهب بالوضوح نفسه، فقد عبّر عن دعم ضمني لتوجّه عون نحو التهدئة والتفاوض، بما يصبّ في مصلحة الاستقرار الإقليمي.
من الضغط الأميركي إلى تطبيق الاتفاقات
يرى الرئيس اللبناني أنّ إستثمار هذا المناخ الدبلوماسي الإيجابي ممكن إذا ما إقترن برغبة أميركية فعلية في ممارسة الضغط على إسرائيل. فلبنان، كما يؤكد عون، لا يريد الحرب، بل يريد التفاوض وفق النموذج الذي نجح في الترسيم البحري. ويدعو واشنطن إلى أن تضغط على إسرائيل لتوقف عملياتها الحربية وتلتزم بتطبيق إتفاق 27 تشرين الثاني 2024 والقرار 1701، بدلاً من طرح إتفاقات جديدة.
ويشير الرئيس إلى أنّ تحقيق هذه الخطوات سيسمح بتنفيذ المرحلة الأولى من خطة حصر السلاح بيد الدولة، عبر إستكمال إنتشار الجيش اللبناني على طول الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، والعودة إلى إتفاقية الهدنة، بما يعني عملياً أنّ لبنان سيحقق ثلاث نتائج في آن واحد:
1. وقف الحرب.
2. وقف الاعتداءات الإسرائيلية.
3. إستكمال انتشار الجيش وفق القرار 1701.
مناخ عربي داعم وإنتظار الترجمة
على المستوى العربي، تؤكد مصادر مطّلعة أنّ الأصداء في العواصم العربية الفاعلة جاءت إيجابية أيضاً، إذ رحبت بتوجّه عون نحو التفاوض وإعتبرته مدخلاً ضرورياً لمرحلة تهدئة إقليمية شاملة. وتضيف أنّ الرئيس فتح باباً حقيقياً أمام الحلول، والمهم ألّا يُغلق من الجهة المقابلة.
أما داخلياً، فتشير الأوساط إلى أنّ أي تقدّم في هذا المسار سيقود حتماً إلى تشاور بين رئيس الجمهورية ورئيسي مجلس النواب والحكومة حول الخطوات العملية اللاحقة، لكن من المبكر الخوض في تفاصيلها قبل إتضاح مدى الضغط الأميركي على إسرائيل وإستجابتها لمتطلبات التهدئة.
بين الترقّب والتحرك
في المحصلة، يبدو أنّ الرئيس جوزاف عون يراهن على لحظة إقليمية مؤاتية لتحويل المنطق الحربي إلى منطق تفاوضي، مستنداً إلى دعم دولي وعربي متزايدين، وإلى تجربة لبنانية ناجحة في الترسيم البحري. ويبقى الرهان الأساسي على أن تلتقط واشنطن هذه المبادرة، فتحوّل الارتياح الكلامي إلى تحرّك فعلي يضغط على إسرائيل لوقف الاعتداءات، تمهيداً لمسار تفاوضي جديد يضع لبنان والمنطقة على سكة الاستقرار الطويل الأمد.