غابات في خطر وإدارة عاجزة... عنصر في الدفاع المدني : "عم نقاتل النار بإيدينا"

بالسيناريو السنوي نفسه، تلتهم الحرائق الجغرافيا اللبنانية من الشوف إلى عكار، ومن الكورة إلى المتن وكسروان، وكأن البلاد عالقة في حلقة جهنمية لا تنتهي، نيران تبتلع آلاف الأشجار، بلدات تتنفس دخانا خانقا، دفاع مدني منهوك، ووعود سياسية موسمية لا تتحقق، وتضاف إلى كل ذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتعمدة لإبادة البيئة في لبنان، ما يفاقم الكارثة ويمنحها بعدا أكثر خطورة.
 
ففي كل مرة تشتعل فيها الغابات، يعود المشهد المأسوي نفسه، مشهد يقضي على مساحات شاسعة من الأحراج.
 
الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور شادي عبدالله أكد "وقوع 7147 حريقا من أول العام 2025 لتاريخ 10 تشرين الثاني: 6900 حريق التهمت الأراضي العشبية، ونحو 637 التهمت أشجار الفاكهة والغابات"، فيما أشارت وزيرة البيئة تمارا الزين إلى أن "اسرائيل أحرقت ما يزيد على 8700 هكتار من الأراضي الزراعية والحرجية".
 
إهمال وتراكم عوامل
 
الحرائق في لبنان ليست حدثا طارئا أو مفاجئا، بل نتيجة أسباب متشابكة. رئيس "جمعية الأرض لبنان"، والناشط البيئي بول أبي راشد أكد لـ "الديار" أن "تكرار الحرائق في لبنان ليس حادثا عشوائيا، بل نتيجة تراكم عوامل متعددة، تشمل الإهمال البنيوي في إدارة الغابات، وغياب خطط الوقاية الجدية قبل الموسم، إضافة إلى تغيّر المناخ الذي زاد من فترات الجفاف ورفع درجات الحرارة، ما يحوّل أي شرارة إلى كارثة، فضلا عن الاعتداءات المتعمدة أو غير المباشرة، مثل رمي النفايات أو إشعال النيران أو أعمال فلاحة غير قانونية على أطراف الغابات. كل ذلك يتفاقم في ظل غياب إدارة مخاطر فعلية من الدولة، التي لا تزال تعمل بمنطق رد الفعل بعد وقوع الحرائق بدل الوقاية"، مشيرا إلى غياب الوزارات المعنية عن دورها.
 
ولفت إلى أن "غياب دوريات حراس الأحراج، يعود ببساطة إلى عدم وجود حراس أصلا، رغم أن تعيينهم قادر على خفض أكثر من 70% من الحرائق"، مضيفا أن "هذا الإهمال يزيد الخسائر البيئية من تدمير الغابات والتربة واختفاء الأنواع وتراجع امتصاص الكربون، وصولا إلى أضرار صحية واقتصادية تصيب السكان"، وختم بالقول إن "لبنان يحترق أكثر كل عام بسبب غياب المحاسبة، والدولة ترفض اعتماد الخطوة الأبسط بتعيين حراس أحراج، ووضع خطة وطنية جدية لحماية ما تبقى من الطبيعة"
 
تفعيل جهاز حراس الأحراج؟!!
 
ومع أن أسباب الحرائق معروفة تقريبا، فإن الدولة اللبنانية منذ أكثر من عقدين لم تبادر إلى اتخاذ أي إجراء جذري لحماية غاباتها، ما يطرح سؤالا بديهيا لماذا هذا التقصير المزمن؟ ومن يدفع الثمن؟
 
خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه دعا إلى "إعادة تفعيل جهاز حراس الأحراج بشكل عاجل، مع تزويده بالصلاحيات والمعدات اللازمة، لمنع الاعتداءات والقطع الجائر، إلى جانب اعتماد أنظمة مراقبة حديثة، مثل الطائرات المسيرة، لرصد أي شرارة قبل امتدادها"، مشددا على أهمية "إطلاق خطط تشجير واسعة في المناطق المتضررة والجردية للحفاظ على التوازن البيئي واستعادة الغطاء النباتي".
 
عنصر في الدفاع المدني: نعمل المستحيل... "بس المستحيل ما بكفي"
 
يصف عنصر متطوع منذ 12 عاما في مركز الدفاع المدني بإحدى قرى المتن، الوضع القاسي بعبارة واحدة "منقاتل النار بإيدينا، مش بالمعدات، فالخراطيم قديمة، والصهاريج غير كافية، ولا توجد ملابس مقاومة للحرارة، ولا معدات تنفس، ولا أجهزة GPS أو خرائط للغابات"، مضيفا "إذا الدولة ما زادت معدات ولا دربتنا، كيف بدها توقف الحرائق؟ نحنا عم نعمل المستحيل، بس المستحيل ما بكفي."
 
طائرات الإطفاء مرّ عليها الزمن
 
ولا يقتصر النقص على معدات الدفاع المدني فحسب، بل يمتد إلى القدرة الجوية على مكافحة الحرائق، ففي عام 2009، اشترى لبنان ثلاث طائرات إطفاء من نوع "سوكول" بقيمة 13 مليون دولار، إلا أنه بحلول 2013 أصبحت الطائرات شبه معطلة، بسبب عدم تخصيص 450 ألف دولار فقط للصيانة السنوية. ومنذ ذلك الحين، بقيت الطائرات مركونة حتى تآكلت عمليا، ما أفقد لبنان أحد أهم أدواته لمكافحة الحرائق الكبرى.
 
واليوم، يعتمد لبنان على طوافات الجيش ذات السعة المحدودة جدا، وفرق المتطوعين، وأحيانا على مساعدات عاجلة من دول مجاورة مثل قبرص واليونان، ما يجعل مواجهة الحرائق عملية شبه مستحيلة.
 
كارثة الارقام
 
الأرقام الرسمية تكشف حجم الكارثة، فخلال العقد الماضي احترقت نحو 34 ألف هكتار من الغابات، بينها 15 ألف هكتار في شمال البلاد، مع تسجيل أكثر من ألف حريق سنويا، الخسائر السنوية تقدر بأكثر من 50 مليون دولار، تشمل الأحراج والسياحة والزراعة، بينما تراجع الغطاء الأخضر بنسبة 30% خلال العقدين الماضيين. كما انعكس أثر الاحتباس الحراري وتكرار الحرائق على صحة السكان، مع زيادة بنسبة 40% في حالات الربو في المناطق المجاورة للحرائق خلال الصيف.
 
وعلى الرغم من كل هذه المعطيات، يبقى التعاطي الرسمي مع الأزمة حلقة مفرغة من الوعود الموسمية بلا نتائج، فالدراسات تشير إلى إمكان تفادي أكثر من 70% من الحرائق بإجراءات بسيطة، لكن البلاد تفتقر إلى الخطط الفعلية على الأرض.
 
الحلول الفعّالة ليست دائماً مكلفة
 
يشار إلى أن وزارة البيئة أعلنت قبل أشهر قليلة عن إطلاق "مشروع الحد من حرائق الغابات" في السراي الكبير، بقيمة 3.45 مليون دولار بشِرْكة مع البنك الدولي وUNOPS، يشمل تأسيس أنظمة إنذار وتجهيز بعض فرق التدخل، على أن تظهر مخرجاته بعد ثلاث سنوات.
 
الرد جاء سريعا من أبي راشد، "الحريق ما بينطر ٣ سنين"، معتبرا المشروع "عيّنة ميكروسكوبية" لا تغطي سوى ثلاث بقع صغيرة، وأكد "أن لبنان يحتاج إلى مئات الملايين من الدولارات، لتأمين أنظمة إنذار مبكر، ومعدات تدخل، وتأهيل واسع للمناطق الحرجية"، وأوضح أن "خبرة جمعية الأرض لبنان أثبتت أن إمكانات محدودة، يمكن أن تحدث فرقا كبيرا، فبـ5 آلاف دولار فقط يمكن دعم أكثر من 100 بلدية بأدوات تدخل أولي، وبـ40 ألف دولار يمكن إنشاء برج مراقبة مجهّز بأنظمة إنذار مبكر، فيما يمكن تجهيز شاحنة للتدخل الأولي بـ20 ألف دولار، في دليل واضح على أن الحلول الفعّالة ليست دائما مكلفة، بل تحتاج إلى إدارة رشيدة وإرادة سياسية".
 
لبنان ليس بلدا فقيرا بيئيا، بل بلد فقير بالإدارة، والحرائق ليست نتيجة قدر طبيعي، بل نتيجة عجز سياسي وإهمال إداري، وفساد مستمر. وحتى تتغير هذه البنية، ستستمر النيران في التهام ما تبقى من غابات لبنان، وسينتظر المواطنون من جديد فرج دولة ربما تأتي.