غياب خطة وطنية لمواجهة العطش: الجفاف يبخّر مياه لبنان

في ظل تفاقم أزمة المياه في لبنان، تغيب حتى الآن أي رؤية واضحة أو خطة وطنية لمواجهة الجفاف وإدارة الموارد المائية المتراجعة. وبينما يستمر هذا الفراغ الرسمي، تتزايد التحديات اليومية أمام العائلات في مختلف المناطق، وسط انقطاعات متكررة للمياه، وارتفاع أسعارها، وتدهور متسارع في البنية التحتية.

وتؤكد مصادر وزارة الطاقة والمياه لـ"المدن" أن لبنان لا يمتلك حتى اللحظة خطة شاملة لإدارة الجفاف أو استراتيجيات منسقة للتكيّف مع تغيّرات المناخ. وقد أشار المصدر إلى أن الوزارة تعمل بالتنسيق مع الشركاء الدوليين على مقترحات أولية، لكنها لا تزال في مراحلها التمهيدية، علماً أن الحلول المؤقتة لا يمكن أن تعالج أزمة المياه المتفاقمة، خصوصاً في ظل التراجع المزمن في الاستثمار بالقطاع.

المياه حق ولكن..

في ظل عجز المؤسسات لغياب الموارد يصبح حق الناس بالمياه مهدداً، وتقول المديرة العامة لمؤسسة مياه البقاع بولا حاوي، في حديث لـ"المدن" إن المياه حق للناس، لكن المؤسسات التي تؤمن هذه الخدمة لا يمكنها أن تعمل بدون موارد. ولفتت إلى أن استمرار انقطاع الكهرباء وارتفاع التكاليف التشغيلية والضغوط على الموظفين يضعف القدرة على تزويد المناطق بالمياه بشكل منتظم.

وتشير حاوي إلى أن بعض البلديات بدأت باتخاذ خطوات ميدانية تعتبرها "وقائية" لافتة إلى أن هذه المقاربة، وإن كانت تندرج ضمن جهود حماية الصحة العامة، غير أنه لا يمكن أن تُستَخدم كبديل عن تطوير البنية التحتية أو تحسين إدارة الموارد.

وتنعكس هذه الأزمة بشكل متفاوت على الأفراد تبعاً لموقعهم الجغرافي والاجتماعي، حيث تتحمّل النساء عبئاً إضافياً في إدارة المياه المنزلية، وتأمين مياه الشرب والغسيل والعناية بالأطفال وكبار السن، ما يزيد من أعبائهن اليومية في غياب أنظمة دعم فعّالة.

محاولات التكيّف

وفي محاولة للتكيّف، لجأت بعض مؤسسات المياه إلى تركيب أنظمة طاقة شمسية لضمان استمرارية الضخ خلال انقطاع الكهرباء، وتدريب فرق من الفنيين على الصيانة المحلية لتقليل فترات التوقف. كما تعمل بعض البلديات مع المؤسسات العامة على تطوير آليات جديدة لتحصيل الفواتير، تركز على كبار المستهلكين مع ترك هامش لتسوية أوضاع الفئات ذات الدخل المحدود. ورغم أهمية هذه المبادرات، إلا أنها تظل محدودة التأثير في ظل غياب سياسات وطنية شاملة واستثمارات عادلة.

وفي ظل نقص التمويل، تستمر المعالجات الدولية في لعب دور حاسم، خصوصاً في ما يتعلق بمعالجة مياه الصرف الصحي. وتقول حاوي: نحن لا نطالب برسوم باهظة، بل فقط بتأمين الحد الأدنى للاستمرار.

في المقابل، تشير وزارة الطاقة والمياه إلى تنسيق جارٍ مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمات الأمم المتحدة في سياق دعم خطة عودة اللاجئين، والتي باتت تشكّل محوراً سياسياً متصاعداً في الخطاب الرسمي.

التغيّر المناخي

ومع استمرار تغيّر المناخ وتقلّب معدلات الهطول، أصبحت الحاجة إلى استراتيجية وطنية لإدارة الجفاف ضرورة لا تحتمل التأجيل. وتدعو أوساط مختصة إلى اعتماد إطار موحّد يشمل أنظمة إنذار مبكر، وترشيد الاستهلاك، واستثمارات مرنة في البنية التحتية، وتنسيق واضح بين المؤسسات والبلديات والمجتمع المدني.

من جهتها، تقوم بعض مؤسّسات المياه بحملات توعوية تهدف إلى تحسين العلاقة مع المواطنين وتشجيع الدفع الطوعي، في محاولة لإعادة بناء الثقة بين الدولة ومتلقّي الخدمة.

لم تعد أزمة المياه في لبنان قضية فنية أو تقنية، بل باتت مرآة لأزمة حوكمة عميقة. فالعدالة في الوصول إلى المياه، ومشاركة الجميع في صنع القرار، وتكامل الجهود بين الوزارات، جميعها مكونات أساسية لأي مسار إنقاذ فعلي.

ورغم خطورة الوضع، فإن المسارات الإصلاحية لا تزال ممكنة. أما ما ينقص فهو القرار الوطني، والخروج من منطق إدارة الأزمات إلى تبني نهج التخطيط المسبق، حتى لا يتحوّل العطش إلى واقع دائم.