المصدر: المدن
الكاتب: جمال محيش
الأحد 28 كانون الاول 2025 18:41:16
لم يعد النهر الكبير مجرد مجرى ماء يفصل بين ضفتين، بل بات أيضاً يفصلُ بين روايات متناقضة، ويشكل مساحة خارج سلطتي الحدود يعبر منها العشرات يومياً تحت سلطة المهربين. هنا، في محيط الشبرونية والدبوسية قرب تلكلخ، لم تعد الأسئلة محصورة بحادثة غرق مجموعة من الناس، بل اتسعت لتطال مفهوم سيطرة القوى الأمنية، وحدود السيادة، والتنسيق مع الجهات السورية في تحمّل المسؤوليات.
الحادثة بدأت بعبور غير شرعي، في ليلٍ مظلم، ونهر غاضب تضاعف جريانه بفعل العاصفة الأخيرة. مجموعة من السوريين (أحدَ عشر شخصاً) حاولت اجتياز النهر باتجاه لبنان، فجرفت المياه بعضهم، فيما تمكنت فرق الدفاع المدني من إنقاذ ثلاثة أشخاص، بينهم امرأتان وشاب فيما بقيَ آخرون (عرفت اسماء أربعةٍ منهم) في عداد المفقودين، في منطقة يعيق البحث فيها الألغام، وشدة التيار، وحدود الجغرافيا المستعصية.
نفي لبناني
في خضم ما جرى، كثرت الروايات من بينها رواية مفادها أن "القوى أمنية لبنانية قامت بإعادة لاجئين سوريين قسرًا بعد اجتيازهم النهر بطريقة غير شرعية" وعلى إثرِ ذلك أصدر الجيش اللبناني بياناً سارع فيه إلى نفي أي عملية ترحيل قسري، وأكد أن وحداته لم تُجبر أحدًا على عبور النهر، وأن العودة تتم طوعًا عبر المعابر الشرعية، مع مشاركة الجيش في عمليات البحث بالتنسيق مع الجانب السوري.
مصادر أمنية اكدت لـ"المدن" أن حادثة الغرق وقعت على الجانب السوري من الحدود، أثناء محاولة عبور غير شرعية من سوريا باتجاه لبنان، ولم يكن الأشخاص قد دخلوا الأراضي اللبنانية أصلًا وأن ما ثبت هو مشاركة لاحقة من الجيش اللبناني في عمليات البحث والإنقاذ، بالتنسيق مع الجانب السوري، بعد وقوع الحادثة. وأضاف المصدر: "إن المنطق القانوني البسيط ينسف الرواية من أساسها: لو كان هؤلاء داخل الأراضي اللبنانية، وكانوا مخالفين، فالآلية المعتمدة معروفة: توقيف، تنظيم محاضر، ثم ترحيل عبر المعابر الشرعية، لا رمي في نهر، ولا عمليات إذلال جماعية في العتمة".
ما وراء عبور النهر
ما جرى على ضفاف النهر لا يمكن فصله عن المشهد الامني السوري اللبناني، سيّما مع توقيف مجموعة تضم نحو 12 ضابطًا من النظام السوري البائد في الأول من أمس على أحد خطوط التهريب المعتمدة منذ سنوات وهي مسارات تُستخدم باتجاهين بين البلدين ما يعني أن هذه الطرق باتت ممرات إعادة تموضع، وهروب أمني، وانتظار تسويات، ليتحول التهريب من قضية معيشية إلى ملف أمني–سياسي ثقيل.
أسباب هذه المحاولات باتت معروفة: الخوف من الملاحقة أو التوقيف وتفادياً للتدقيق على المعابر الرسمية، والمنع من السفر.
جغرافيا تهزم الشرعيّة
عشرات المعابر غير الشرعية تنتشر على هذا الشريط الحدودي، نحو 17 منها معروفة للأجهزة الأمنية، فيما البقية تتحرك في الظل. في الشيخ عياش وحدها ثلاثة معابر ناشطة: معبر الحكر، تل حميرة، والعين. وفي العبودية معابر أخرى أبرزها معبر البوري. والأخطر، أن بعض "البيوت" تحوّلت فعليًا إلى معابر، لأن الجدار يلاصق النهر، والباب يوصل إلى الضفة الأخرى، في مشهد يلخّص معنى "فوضى الحدود وتعقيداتها".
ومن معابر غير شرعية تحولت إلى أمر واقع، وشبكات تهريب تعرف الجغرافيا أكثر مما تعرفها السلطات الرسمية. هنا، يصبح النهر شاهدًا لا متهمًا، ويصبح السؤال الحقيقي: كم حادثة أخرى يجب أن تقع قبل أن يُعاد تعريف معنى الحدود، لا كخط على الخريطة، بل كمسؤولية يترتب عليها حياة أو موت العابرين؟