فريقان وتباينات مصرفية حيال إعادة هيكلة القطاع: متشدد بتحميل الدولة المسؤولية وآخر يدعو إلى "الواقعية"

أما وقد قرر مجلس الوزراء تأجيل النقاش في مشروع القانون الرامي إلى "إصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها"، إلى جلسة تُعقد غداً بغية تضمين المشروع الملاحظات التي عرضها عدد من الوزراء، اضافة إلى ملاحظات جمعية المصارف، يعكف مصرفيّو لبنان على تكثيف التواصل في ما بينهم لتوحيد الرؤية حول مصير القطاع. ويحاول هؤلاء وضع "حلول واقعية" للخروج من الأزمة بأقل كلفة ممكنة، من دون اللجوء أو الإنصياع إلى قرارات أحلاها مُر، لا تخدم مستقبل المصارف القائمة من جهة، ولا تعيد ترتيب العلاقة مع المودعين الساخطين من جهة أخرى، وتضع الودائع وموجودات المصارف في خطر الفقدان والنسيان.

وإذا كان التعاون والتنسيق قد فعلا فعلهما في مواجهة الأزمة وفي الإبقاء على خفق نبض المصارف "شغّالا" في انتظار الظروف والمسارات الموعودة للخروج من نفق فقدان السيولة، وخطر الافلاس، بيد أن ذلك لم يمنع بروز وجهات نظر متباينة داخل الجمعية حيال السبل والأطر الواجب السير فيها ومن خلالها، لمواجهة مشاريع قوانين قيد الدرس في المجلس النيابي أو الحكومة، وأوراق عمل واقتراحات يتم تحضيرها ويعرف القاصي والداني أنها مشروع ذبحٍ للمصارف اللبنانية، وإنهاء قسري لدورها التاريخي في اقتصاد البلاد والدول العربية والمجاورة.

تتركز التباينات حول وجهتي نظر أساسيتين ينقسم أعضاء مجلس إدارة جمعية المصارف حولهما إلى فريقين. الأول يصرّ على تحميل الدولة ومصرف لبنان كامل وزر الأزمة وفقدان الودائع المصرفية وشحّ السيولة لدى المصارف. أما الثاني فيدعو إلى التحلّي بالموضوعية وعدم الإنجرار خلف مطالب وخطط غير واقعية تخطتها الأحداث ووقائع الإنهيار النقدي والإقتصادي. ويدفع هذا الفريق باتجاه اقتناع جمعية المصارف بالقبول ببناء شراكة عادلة مع مصرف لبنان من جهة، والدولة من جهة أخرى، يتحمل فيها الجميع بالتكافل والتضامن مسؤولية تحديد مجمل الخسائر المحققة، ومصير الودائع وإعادة هيكلة المصارف. وينطلق من قناعة أينعت مع التجربة الأخيرة، بأن لا إنقاذ للمصارف اللبنانية من دون اقتناع مصرفيي لبنان كلهم، وبأن المجد والتميّز وفائض الودائع والأرباح، وتربّعهم على عرش الصناعة المصرفية في لبنان والإقليم ذهبت جميعها أدراج التاريخ، وأن الآتي قطاعٌ حديث تختلف مقوماته وإمكاناته عما كان قبلاً.

وفي السياق، تؤكد مصادر متابعة للملف المصرفي أنه "لا يختلف اثنان على أن دور المصارف في لبنان سيختلف حتما مستقبلا في ما لو أُقرت القوانين اللازمة، وستتبدل وظيفتها (وقد تبدلت قسراً) ونوعية استثماراتها واتجاهاتها، ولن تكون بعد اليوم ولا في أي يوم مستقبلاً، محفظة إحتياطية تغرف الدولة منها بشراهة ما تشاء وساعة تشاء، لسدّ عجوزات الهدر والفساد وتكاليف التوظيف الإعتباطي في الموازنات".

وتتابع: "ثمة وهمان في لبنان: وهم الإتكال على الدولة لإعادة الودائع والمصارف الى الحياة الطبيعية، ووهم الإتكال على صندوق النقد وأترابه من المؤسسات الدولية لإخراج المصارف من الموت السريري. فيما كلاهما لا يعير بقاء المصارف الحالية والودائع أي اهتمام، ونصيحة شطب الودائع لازمة لمشاريعهما دوما". وترى المصادر نفسها أن "استخفاف السلطة المسيطر على عقول أهلها هو سبب الكثير من علل القطاع المصرفي، وهو أتى بدوره نتيجة رضوخ المصارف في العقود السابقة لإغراءات السلطة، والفوائد المرتفعة، ولثقة غير مبررة بوعود الإصلاح، وبمساعدات مأمولة من المنظمات والدول الشقيقة المانحة".

إذاً، ثمة موقفان في جمعية المصارف يتفقان على الخطوط العريضة بتحميل مسؤولية ما آلت اليه أوضاع المصارف الى الدولة ومعها مصرف لبنان، ولكنهما يتمايزان في طريقة الخروج من المأزق، وما الرسالة التي أرسلها رئيس جمعية المصارف سليم صفير الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونشرتها "النهار" إلا نموذجا عن الموقف المتشدد في الجمعية.

فبرأي صفير "عنوان المشروع خاطئ، فالمصارف ليست بحاجة الى إصلاح، بل بحاجة إلى إعادة الدولة ومصرف لبنان ما أودعته لدى الأخير، تطبيقاً للقواعد القانونية المرعية الإجراء، لتعيده بدورها الى المودعين، وإن كانت المصارف تعرف إمكانات الدولة اللبنانية، وهي مستعدة للتعاون لإعادة تفعيل القطاع المصرفي وإعادة أموال المودعين، فإنه لا يعقل تحميلها وحدها مسؤولية إعادة النهوض ولا معاقبتها، ولا وضعها تحت مقصلة "هيئة خاصة" تقرر مصيرها منفردة بموجب قرار واحد نهائي ومبرم".

أما عضو مجلس إدارة جمعية المصارف سعد أزهري الذي يتفق مع صفير على تحميل الدولة ومصرف لبنان مسؤولية الازمة، فيشير لـ"النهار" الى أن "ثمة 3 خصائص لا يمكن تجاهلها في ما يخص الأزمة في لبنان والتي تجعلها فريدة من نوعها في العالم. إذ اتسمت الأزمة بشموليتها حيث جمعت في طياتها أزمة مديونية عامة وأزمة سعر صرف وأزمة مصرفية". وبرأيه "فقد نشأت الأزمة في مصرف لبنان وليس في المصارف كما هو معهود، وجاءت نتيجة لسياسات التمويل المسرف من مصرف لبنان من ودائع المصارف لمصروفات الدولة اللامتناهية. عدا عن ذلك، فقد انكفأت الدولة عن القيام بأي إصلاحات ضرورية رغم عمق وطول الأزمة وتداعياتها الحادة على الإقتصاد والمجتمع، وجلّ ما قامت به هو بعض الإجراءات المنفردة ومشاريع قوانين لم تترجم إلى خطة إصلاح شاملة على مستوى الأزمة".

 

هذه الخصائص التي أوردها أزهري تقتضي برأيه "الإدراك الصريح لثلاث حقائق أساسية، أولاها ان حل الأزمة يتطلب سلة متكاملة ومتزامنة من الإصلاحات تتضمن إصلاحات في السياسات المالية والنقدية والمصرفية وسعر الصرف، إضافة إلى إصلاحات هيكلية في القطاع العام. والمؤسسة ذات الخبرة والتمويل والسمعة الدولية التي باستطاعتها التصميم والإشراف على تنفيذ هذه الإصلاحات هي صندوق النقد الدولي.

ثانية هذه الخصائص، أن الأزمة هي أزمة نظامية عصفت بالنظام المصرفي برمته، ولهذا تستوجب إعادة هيكلة للقطاع المصرفي ككل". والأهم من ذلك، وفق ما يقول ازهري، أن "عملية إعادة الهيكلة يجب أن تأخذ في الحسبان أن المصارف يجب أن تتحمل الخسائر الناجمة عن انخفاض قيمة العملة اللبنانية وعن محفظتها من القروض وسندات اليوروبوندز، وليس عن خسائر ودائعها في مصرف لبنان التي تمثل حاليا نحو 90% من ودائعها بالعملة الأجنبية. وتاليا هذا ما يجعل مسؤولية استرداد الودائع بالدرجة الأولى مسؤولية الدولة ومصرف لبنان، إضافة إلى المصارف. هذا ما يؤكد أيضا أن عملية إعادة هيكلة المصارف يجب ألّا تهدف إلى تصفية المصارف وتصفير أموالها الخاصة، بل إلى النهوض بها بشكل فعال لكي تتمكن من إعادة الودائع لأصحابها (للودائع دون الـ 100 الف دولار)، والمشاركة في صندوق استرداد الودائع" الذي تمنى أزهري "أن يتضمن أيضا مساهمات من مصرف لبنان وإيرادات الدولة وإيرادات من النفط والغاز (للودائع فوق الـ 100 الف دولار)، ومن توفير خدماتها التي لا غنى عنها للإقتصاد الوطني. وما يعزز هذا الأمر، هو أن الأزمة لم تكن نتيجة فشل المصارف في عملها، إذ لا تزال المصارف اللبنانية العاملة في الخارج تحظى بنجاح وربحية في الاسواق الإقليمية والدولية بسبب كفايتها وإدارتها الرصينة".

الى ذلك، يرى أزهري ان "عدم الشروع بحلول وإصلاحات للأزمة يفتقد الشجاعة السياسية، إضافة إلى الإختلافات السياسيّة الحادّة التي تقصي الملف الإقتصادي عن أولوياته الملحّة. وعليه، فإن انعدام الإصلاح الجذري يكمن في فشل الإقتصاد السياسي وفي الشلل السياسي، وليس في أمور لها علاقة بأهلية صندوق النقد الدولي أو صعوبة الأزمة أو ما شابه ذلك".

وعلى رغم كل ذلك، يبقى أزهري متفائلا بأن الوعي السياسي والتنظيمي "سيرتقي إلى حجم الأزمة وخطورتها، ليفضي بذلك الى انفراجات إصلاحية وسياسية تعيد الإزدهار للإقتصاد وللقطاع المصرفي وللإنسان والمجتمع اللبناني".

وبين رأي صفير ورأي أزهري ثمة ملاحظات أوردتها لـ"النهار" مصادر مصرفية على مشروع قانون اعادة هيكلة المصارف، مؤكدة الإجماع على أهمية معالجة الأزمة النظامية في القطاع المصرفي عن طريق إعداد وتطبيق قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي يحفظ مصالح جميع الأفرقاء وحقوقهم.

وعليه، تؤكد المصادر أن ثمة وقائع اساسية يجب على أي قانون أن يأخذها في الحسبان، أبرزها أن المصارف ستتحمل خسائرها الناجمة عن انخفاض قيمة العملة اللبنانية وعن محفظتها من القروض وسندات اليوروبوندز، وعندما يتم الإتفاق مع الدائنين بالنسبة الى الأخير.

أما في ما يتعلق بودائع المصارف بالعملة الأجنبية فسيصار الى تقسيمها إلى قسمين. الأول للودائع المؤهلة التي لا تفوق الـ 100 الف دولار فستبقى في ميزانية المصارف، أما القسم الثاني للودائع المؤهلة التي تفوق الـ 100 الف دولار فستحوَّل إلى صندوق استرداد الودائع.

وفي السياق، تشير المصادر الى ملاحظتين حول المشروع: الأولى ان القانون يجب أن يغطي الودائع في فروع المصارف في لبنان، وأن لا يشمل ودائع المصارف اللبنانية في الخارج لأن هذه الودائع محمية ولم تتأثر بالأزمة وتخضع للأنظمة الرقابية في الخارج، وعليه تقترح المصادر تعديل المادة 4: تخضع لأحكام هذا القانون جميع المصارف اللبنانية بكافة فروعها في لبنان.

الملاحظة الثانية، التأكيد على أن القانون لا يهدف إلى تصفية المصارف (الأموال الخاصة) بل إعادة هيكلتها ضمن إطار فعّال يسمح لها باستئناف عملها الضروري بهدف خدمة الإقتصاد الوطني وإعادة تمويل الدورة الإقتصادية، والإلتزام بدفع ودائعها المؤهلة التي لا تفوق الـ 100 الف دولار، وتحقيق الأرباح التي ستغذّي صندوق استرداد الودائع. وبناء عليه، اقترحت المصادر تعديل المادة 46: المبلغ المحمي من ودائع العملاء بالعملات الأجنبية لتصبح: يمثل المبلغ المحمي من ودائع العملاء بالعملات الأجنبية في حال إعادة الهيكلة الحد الأدنى كما هو محدد في "قانون إعادة التوازن للنظام المالي في لبنان".