فشل حزب الله في منع التحاق لبنان بقطار السلام الإقليمي

يواجه لبنان معضلة كبرى في خياراته الراهنة باعتماد الحوار والدبلوماسية من أجل إنهاء الاحتلال ووقف العمليات العسكرية العدوانية اليومية والتي تطاول مختلف المناطق من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، في ظل تعنت قيادة حزب الله في رفض دعوة الرئيس جوزاف عون لاعتماد الحوار من اجل مواجهة العدوان والاحتلال، والحؤول دون نشوب حرب جديدة تشنها اسرائيل ضد الحزب والدولة، والتي ستؤدي حتماً في ظل موازين القوى الراهنة الى كارثة وطنية امنياً واقتصادياً وعمرانياً، حيث من المقدّر لها ان تشمل الاهداف الاسرائيلية اهداف البنى التحتية الاساسية كمحطات الطاقة والمطار والمرفأ.

لا يأتي هذا الكلام من باب التهويل على حزب الله او اللبنانيين، بعد ان نقلت آخر الاخبار عن هجرة المنازل واقفال المدارس في بعض القرى الجنوبية، وذلك خشية شن اسرائيل عدواناً وشيكاً.

لم ينجح اتفاق وقف النار الذي اعتمد في 27 تشرين الثاني 2024 في انهاء الحرب، والتي استمرت ولكن باشكال اخرى، حيث تستمر الغارات الاسرائيلية ضد مختلف الاهداف التي تشتبه بها اسرائيل بأنها عائدة لحزب االله، بما في ذلك متابعة اغتيال قيادات الحزب بشكل يومي، وبدقة متناهية، هذا بالاضافة الى رفض اسرائيل الانسحاب من النقاط الخمس التي تحتلها، ومشروعها ببناء حائط اسمنتي يمتد الى شمالي الخط الازرق، مع قضم آلاف الامتار المربعة من الاراضي اللبنانية.

في مبادرة من الرئيس عون للخروج من المأزق المتفاقم المتمثل بالاحتلال واستمرار العمليات الاسرائيلية داخل لبنان، ولمواجهة الضغوط التي يتعرّض لها لبنان لتسريع تنفيذ قرار حصرية السلاح الذي اتخذه مجلس الوزراء في الخامس من آب الماضي، فقد دعا الرئيس لاعتماد الحوار مع اسرائيل، مفضلاً قوة المنطق على منطق القوة الذي يطالب به حزب الله من خلال رفضه الحاسم والمتكرر لتسليم سلاحه، والحفاظ على خيار المقاومة.

في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن طرح الحوار من قبل الرئيس عون يتلاقى مع النزعة الجديدة لحل النزاعات مع اسرائيل من خلال الحوار بتسهيل اقليمي ودعم ورعاية اميركية، وهذا ما نشهده على جبهة قطاع غزة، وعلى الجبهة السورية، حيث توحي المحادثات المباشرة بين سوريا واسرائيل الى الاقتراب من اعتماد حل يعيد الوضع الى ما نصت عليه اتفاقية الفصل في الجولان الموقع عام 1974.

واستمرّ حزب الله في مواقفه التصعيدية من خلال رفضه لأية صيغة للحوار سواء كانت مباشرة او غير مباشرة، وتضع مواقف الحزب التصعيدية الرافضة لقرار حصرية السلاح او الدخول بمفاوضات مع اسرائيل الدولة اللبنانية تحت مزيد من الضغوط العسكرية والتي تنذر بالعودة الى الحرب المفتوحة مع اسرائيل، كما تعرّض السلطة اللبنانية وتحديداً الرئيس عون لمزيد من الضغوط الدبلوماسية الاميركية، كما تضع في منزلة الشك عمليات الجيش اللبناني في جنوب الليطاني، وفي قدراته على مواجهة تعنت قيادات حزب الله في رفضها لنزع السلاح.

ان الضغوط التي تتعرض لها السلطة اللبنانية بسبب التأخير الحاصل في عملية حصرية السلاح هي مرشحة للارتفاع، ولم تعد تقتصر فقط على تفعيل عمليات الجيش جنوبي الليطاني، بل زادت من خلال الاتهامات الاسرائيلية لحزب الله بالعودة الى بناء قدراته العسكرية من خلال استعمال شبكات تهريب وطرق جديدة للسلاح والمال، او من خلال تطويع وتدريب مقاتلين جدد.

في الواقع يستمر حزب الله في حملاته الاسبوعية الرافضة لاية مبادرات رئاسية او حكومية لوقف التصعيد الاسرائيلي وتفادي الحرب الجديدة، في الوقت الذي لم يطلق فيه الحزب رصاصة واحدة باتجاه اسرائيل منذ اعلان وقف النار في 11 تشرين الثاني 2024، رغم الخسائر التي يتكبدها نتيجة العمليات الاسرائيلية اليومية، وخصوصاً التركيز الجاري على اغتيال قياداته. في المقابل فإن امينه العام الشيخ نعيم قاسم يؤكد في تصريحاته وخطبه بأن المقاومة في الف خير وما زالت تشكل الدرع القادر على حماية لبنان. وجاء جديد الشيخ نعيم قاسم من خلال وعده لاسرائيل بعدم تهديد امن مدنها ومستعمراتها الشمالية، متقدماً بذلك على المهمة التي يضطلع بها الجيش بمؤازرة اليونيفيل لتحقيق الاستقرار على طول الخط الازرق. وهنا تبلغ المواقف المتناقضة لحزب الله ذروتها. ففي حين الذي يتحدث فيه عن استعادة الحزب لقدراهه العسكرية والمترافقة مع تطمين الاسرائيليين في الشمال، فإنه يبلغ حداً من الرفض العلني لدعوات الرئيس عون للدخول في مفاوضات مع اسرائيل لتفادي حرب جديدة، وتأمين انهاء الاحتلال المستمر، ويذهب الحزب في حملته ضد الاقتراح الرئاسي بالحوار الى حد التخوين، متهماً الدولة بالخذلان وبخدمة المصالح الاسرائيلية.

اللافت الآن بأن الضغوط التي تتعرض لها السلطة في لبنان بسبب سياسات الرفض «القاطع» التي يعتمدها الحزب لكل الدعوات للحوار لم تعد تقتصر على الضغوط الدبلوماسية بل تعدت ذلك الى الشأن المالي ولوصول ما يقارب مليار دولار للحزب كدعم من ايران. وتركزت محادثات الوفد الاميركي الخاص والمشكل من وزارة الخزانة ومن المسؤولين من الارهاب في البيت الابيض حول الاجراءات المطلوبة لوقف وصول المساعدات المالية للحزب سواء من ايران او من عمليات تبييض الاموال او الاتجار بالمخدرات وفق التهمة الاميركية.

يبدو بوضوح بأن مواقف الحزب الرافضة للحوار لا تخدم لبنان بل تأتي انطلاقاً من اجندة ايرانية للحفاظ على لبنان كورقة رابحة تستعملها طهران لخدمة سعيها لاجبار الادارة الاميركية على التفاوض معها في موضوع النووي او في الاهداف الحقيقية التي رمىالرئيس عون لتحقيقها من خلال الدعوة للحوار، والتي يمكن ان تأتي استكمالاً، لحل النزاعات الحدودية مع اسرائيل، وبالتالي تطبيق الآليات والمفاوضات التي جرت لحل مشكلة حدود المنطقة الاقتصادية بين البلدين في عام 2022 والتي انهت الخلاف حول الحدود البحرية، وان اكثر ما يمكن ان ترمي اليه المفاوضات المقترحة، يتركز على ترسيم نهائي للحدود، والاتفاق على جعلها حدوداً آمنة لكل من لبنان واسرائيل.

يبدو ان الاجراءات المالية التي طالب بها الوفد الاميركي من اجل قطع سبل تمويل حزب الله من ايران او من عمليات تبييض الاموال، والتي ترجمته الى تعاميم اصدرها حاكم مصرفه كريم سعيد تحتل اهتماماً خاصاً لدى امين عام الحزب، والذي اطلق عدة تصريحات ضد السلطة اللبنانية المالية والاميركيين ويمكن انجازها على الشكل الآتي:

اولاً، اتهم الامين العام الولايات المتحدة بالسعي لتخريب حياة المواطنين اللبنانيين، وذلك عبر مطالبتها بوضع حد للعمليات المالية غير القانونية التي تضطلع بها مؤسسة القرض الحسن.
 
ثانياً، ذهب الامين العام الى نصيحة وتهديد حاكم مصرف لبنان في حال العمل على تطبيق الاجراءات التي طلبها الموفد الاميركي من السلطات السياسية والمالية اللبنانية.

ثالثاً، اتهم الامين العام السلطات اللبنانية بتقديم تنازلات كبيرة لاسرائيل، وهكذا يبدو وبوضوح ان الحزب وقيادييه باتوا يعيشون حالة من الانكار واتباع سياسة الهروب الى الامام، وذلك في اطار ايجاد الاعذار لمواجهة الضغوط الدولية والعربية والداخلية لنزع سلاحه، بينما تأتي قرارات الهروب الى الامام بتحريض ايراني مستمر، وكانت آخر مظاهر حملة التحريض التي شنتها مؤخراً صحيفة «طهران تايمز» ضدالسلطات اللبنانية واتهامها بالانصياع للاوامر الاميركية والخضوع للتهديدات الاسرائيلية.

في النهاية تتجاهل قيادة حزب الله بأنه لم تعد تمتلك أياً من عناصر القوة التي كانت تمتلكها منذ عام 2006 واعلانها تحقيق انتصار واضح على اسرائيل، هذا بالاضافة الى الضعف الذي لحق بالموقف الايراني نتيجة العمليات العسكرية الاسرائيلية والاميركية ضد ايران اثناء الحرب على غزة.

في ظل الظروف الراهنة الناتجة عن الحرب، وبعد سقوط نظام بشار الاسد في سوريا فإنه بات من شبه المستحيل نجاح الحزب وايران في تعويض خسائر الحزب العسكرية او استمرار عمليات تمويله بالسهولة السابقة، وخصوصاً خلال السنوات التي تلت حرب 2006.

يبدو الآن وبعد تصديق مجلس الامن اول امس على القرار الاميركي حول غزة، والذي يرى فيه الرئيس ترامب بأنه يشكل خطوة كبرى نحو تحقيق السلام في منطقة الشرق الاوسط، يمكن النظر الى مواقف حزب الله ومعه ايران لرفض تنفيذ قرار نزع سلاح الحزب من قبل الجيش اللبناني بانها مواقف عبثية، ولن تنجح هذه المحاولات في منع لبنان من التفاوض مع اسرائيل واللحقا بغطاء السلام الاقليمي.