في السّلك العسكري: العمل الثاني بات إجبارياً!

كتب دانيال شمص في الاخبار: 

في إحدى ورش البناء، يقف أحد العسكريّين بعدما خلع بزّته وارتدى ملابس العمّال، وهو يقوم بطلاء الجدار. يذهب بالفرشاة يُمنةً ويسرةً وعلامات التّعب تظهر جليّاً على وجهه، يدور ما بين العمّال ببؤس وملل، وفي ملامحه شيء من الإرغام، ويقول لكلّ من يقترب منه: «لعن الله هذا الزمن الذي أوصلنا إلى هنا!». هذا الزمن الذي أُجبر جنود الجيش على البحث عن عمل ثانٍ بعدما فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية وخسروا الكثير من المكتسبات التي كانت تُقدّم إليهم.

في السّابق، كان يُنظر إلى العسكري أنّه حقّق ضمانة فعلية له ولعائلته، أما اليوم فقد تحوّل عمله إلى سجن بات يحتار كيف يهرب منه. يقول أحدهم في مقارنة بين الوضعَين: «كنت أتقاضى مليون ونصف المليون شهريّاً، كان يعادل ألف دولار أميركي، أما اليوم فهو لا يتجاوز حاجز الستّين دولاراً». ويوضح عسكري آخر أنّ الراتب بالكاد يكفي بدل النقل من المنزل إلى مراكز الخدمة ذهاباً وإياباً، مفصّلاً «أحتاج إلى مليون ونصف المليون بدل مواصلات، وخمسمئة ألف ليرة مصروفاً شخصياً في العمل، نعم هذا أكثر من راتبي، لذا أعوّل اليوم على عملي الآخر خارج وظيفتي». حتى الحصول على هذا الراتب الهزيل لم يعد سهلاً، إذ لا بدّ من الانتظار أمام المصارف لاستلامه بالدولار عبر الصرّاف الآلي، عسى أن يكونوا من المحظوظين فـ«يربحوا» 200 ألف ليرة إضافية بدل فرق السعر بين منصّة صيرفة وبين السوق السوداء. أما المساعدات، فلم يحصلوا عليها إلا مرة واحدة «100$ أميركي مرة واحدة مع وعود بالجملة لزيادة بدل النقل التي تبلغ قيمتها حالياً 381 ألف ليرة».

بيع المقتنيات

اجتمعت هذه الأسباب، كي تدفع بالعسكريّين إلى إيجاد بدائل لسدّ الحاجات الأساس. فمن كان يملك مركباتٍ آليةً (سيّارة، درّاجة ناريّة) باعها. تقول زوجة أحدهم: «اضطررت لبيع جميع أساوري الذّهبيّة، زوجي باع سيّارته أيضاً ولم يبقَ أيّ شيء نستطيع بيعه». ليُصبح الأهل والأقارب سفن النجاة الأخيرة، «صرنا نذهب يوميّاً إلى منزل أهل زوجي لتناول وجبة الغداء، النّاس في الخارج لا تعرف مدى صعوبة وضعنا، فقد أصبحنا نستحي أن نستقبل الضّيوف لأنه ليس لدينا ما نقدّمه من ضيافة».

رغم ذلك، يستقبلنا أحد العسكريين في منزله، وتخبرنا زوجته «نحن نشتري كيلوغراماً واحداً من اللحم شهرياً ونقسّمه على 10 طبخات، أي نصف أوقيّة للطّبخة التي يجب أن تُؤكل على ثلاثة أيّام». زوجةٌ ثانية تبكي كلّما تذكّرت سؤال ابنها الصغير لها «متى سنأكل اللّحم يا ماما؟». أما حليبُ الأطفال فحدّث ولا حرج؛ مجمع الحليب الذي يساوي 15$ ولا يكفي لأكثر من أسبوع، أصبح من الكماليّات، فلجأوا إلى أنواع أخرى ذات قيمة غذائيّة متدنّية. هكذا أصبح همّهم الوحيد هو الطّعام والشّراب، قبل أن نأتي على ذكر مصاريف الصحة والتعليم التي تقصم الظهور.

عمل آخر

هذا الواقع دفع بالعسكريّين إلى البحث عن عمل آخر خارج السّلك العسكري. من كان يجيدُ حرفةً لجأ إلى العمل بها خارج أوقات الخدمة، ولكنّ أغلبهم ذهبوا إلى الأعمال الأكثر تواضعاً من أجل فتات المال. كثيرون منهم يعملون بالدّهان والباطون والنقل والعتالة ومختلف أنواع الخدمة في المطاعم، ومنهم من يصطحب أولاده للعمل معه: «لم يجد أبي إلّا العتالة عملاً إضافيّاً، وأنا أعمل معه لكي نستطيع أن نؤمّن العشاء لأمي وإخوتي الصّغار». لا يخلو الأمر من استغلال أصحاب العمل لرغبة العسكريين في الحفاظ على سريّة العمل، فيدفعون لهم رواتب أقلّ ممّا يستحقون.

بدورهنّ، زوجات العسكريين غير العاملات بتن يبحثن عن عمل، ولو بأجور أقلّ من الطّبيعيّة، من أجل المساهمة في سدّ الحاجات الأساسية، فيما تبحث العاملات منهن على عمل خارج البلد للسفر لأن أزواجهنّ عالقون في وظائفهم لا يستطيعون أن يطلبوا التسريح من الخدمة لأنها تُرفض.

النقمة على السّلك تزيد من قبل العسكريّين يوماً بعد يوم. لم تُدرج زيادات ولا بدل نقل ولا مساعدات اجتماعيّة ما يساعد أبناءه على العيش بكرامة، فالعسكريّون اليوم يعملون في مهن بشكلٍ غير إنساني وغير قانوني من أجل لقمة العيش التي ضاعت من أياديهم بدون أدنى ذنب لهم. أمّا الكلام عن تحسين الأوضاع يبقى استعراضاتٍ سياسيّة في حينِ أنّ هناك سلكٌ يحضنُ عشرات آلاف العائلات يُسحقُ ببطء.

نتائج نفسية

أنتجت الظّروف هذه أجواءً سلبيّة ومشكلات عائلية زوجيّة، تقول المختصّة العلاج النفسي د. باسمة قبيسي «إنّ العسكريين هم ممثلو السّلطة على الأرض، والتّقليل من قدرتهم عبر انعدام المادّيات والانهيار المادي يؤدي إلى ضياع وتشتّت نفسي، وفي أسرهم انعكاس سلبي متمثل في زعزعة هرميّة المنزل». أمّا من لم يتزوّج فعليه - بإجماع العسكريّين- أن ينسى الفكرة من الأساس، لأنّ الأمر أصبح أكثر من مستحيل.