المصدر: نداء الوطن
الكاتب: مروان الشدياق
الثلاثاء 30 أيلول 2025 06:40:19
في 19 تشرين الأول 2025، يلتقي العالم في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، حيث سيُعلن قداسة البابا لاوون الرابع عشر قداسة الطوباوي الشهيد المطران إغناطيوس شكراللّه مالويان، أسقف ماردين للأرمن الكاثوليك، مع ستة شهداء طوباويين آخرين. حدث كنسي- روحي استثنائيّ يحمل في طيّاته أبعادًا تتخطّى الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكية إلى الكنيسة الجامعة، ويتردّد صداه بقوّة في لبنان، بلد الأرز الذي وطئت قدماه أرضه المقدّسة وعاش فيه سنوات من التكوين الروحي والدراسة في دير سيدة بزمار. هذا الحدث الكبير، الذي سيُدخل المطران مالويان سجلّ القديسين على مذابح الكنيسة، ليس مجرّد محطة طقسيّة، بل علامة رجاء وشهادة حيّة لمسيح قام ولم تقدر قوى الاضطهاد على إخماد نوره.
سيرة مطبوعة بالقداسة والشهادة
وُلد شكراللّه مالويان في ماردين سنة 1869 في عائلة مؤمنة حملت بذور الإيمان بعمق. منذ طفولته، برزت فيه علامات التقوى والجدية الروحية، ما دفع المطران ملكون ناظاريان إلى إرساله عام 1883 إلى دير سيدة بزمار البطريركي في لبنان، حيث تلقى علومه وتفتّحت دعوته الكهنوتية. هناك، تنفّس حبّ لبنان، وتشرّب قدسية أرضه، وارتبط وجدانيًا بروحانيّته.
في 6 آب 1896، يوم عيد التجلّي، سيم كاهنًا على يد البطريرك إسطفانوس بطرس العاشر أزاريان. خدم بداية في بزمار ثمّ في مصر بين الإسكندرية والقاهرة، قبل أن ينتقل إلى القسطنطينية، ليعود بعدها إلى ماردين. وفي 1911، اختاره السينودس البطريركي رئيسًا لأساقفة أبرشية ماردين، فنال السيامة الأسقفية من يد البطريرك بوغوص بدروس الثالث عشر ترزيان.
كان أسقفًا راعيًا بامتياز، جمع بين قداسة الحياة وبُعد النظر الرعويّ، فخدم شعبه بغيرة رسولية، وامتدّ عمله حتى إلى خدمة الدولة العثمانية، التي كرّمته بأوسمة رفيعة. إلّا أنّ رائحة القداسة التي فاح عبيرها من شخصه سرعان ما تحوّلت إلى شهادة دم، يوم قرّر أن يثبت على إيمانه حتى الموت.
وسام الشهادة: 11 حزيران 1915
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بدأت المجازر ضد المسيحيين الأرمن. في نيسان 1915، حاصر الجنود الأتراك كاتدرائية ماردين وأحرقوا أرشيفها، واتهموا المطران بإخفاء سلاح. عُرض عليه اعتناق الإسلام للنجاة، فكان جوابه قاطعًا: "لم نكن سوى أوفياء للدولة. لكن إن طلبتم منّا عدم الوفاء لديننا، فلن يحصل ذلك أبدًا، أبدًا، أبدًا".
اعتُقل مع 27 من الكهنة والمؤمنين، وتعرّض لتعذيب جسديّ ونفسيّ قاسٍ. ومع كلّ ضربة، كان يرفع عينيه إلى السماء قائلًا: "يا رب، ارحمني، قوِّني". وحين اقتربت لحظة استشهاده، طلب من الكهنة أن يمنحوه الحلّة الأخيرة. ثمّ، واقفًا كالجندي المسيحيّ في معركة الإيمان، رفض مجدّدًا إنكار المسيح، فتمّ إطلاق النار عليه في صحراء دير الزور السورية، في 11 حزيران 1915، ليلقى وسام الشهادة، مكرّسًا حياته قربانًا على مذبح المسيح.
من الطوباوية إلى القداسة
فتحت دعوى تطويبه عام 1966، وتوّجت في 2 تشرين الأول 2001، يوم أعلنه البابا القديس يوحنا بولس الثاني طوباويًا في ساحة القديس بطرس. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح إغناطيوس مالويان شفيعًا للأرمن الكاثوليك وللكنيسة الجامعة، ورمزًا للشهادة والثبات على الإيمان.
اليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على استشهاده، تقرع الكنيسة أجراس الفرح في 19 تشرين الأول 2025 لتعلن قداسته، اعترافًا رسميًا من الكنيسة الجامعة بأن المطران مالويان عاش الفضائل المسيحية إلى أقصى حدودها، حتى بذل دمه حبًّا بالمسيح وبشعبه.
لبنان في قلب الحدث
فرح لبنان بهذا التقديس فرح مضاعف. فإلى جانب كونه حدثًا كنسيًّا عظيمًا، فإن له نكهة لبنانية خاصة. فالمطران مالويان ارتبط بلبنان منذ مراهقته يوم دخل دير سيدة بزمار، حيث عاش وتكوّن وتشرّب محبّة هذا الوطن. ومن هنا، فإن إعلان قداسته هو أيضًا تكريم لأرض القداسة التي احتضنته، لبنان وطن الأرز الذي أعطى ويعطي قديسين للعالم.
مصادر "نداء الوطن" أكّدت أن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون سيشارك شخصيًا في احتفال التقديس في الفاتيكان، تلبية لدعوة رسميّة وجّهها إليه كاثوليكوس بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان، خلال زيارته قصر بعبدا.
كما علمت "نداء الوطن" أن البطريركية خصّصت 1500 مقعد للمؤمنين في ساحة الفاتيكان، وأعدّت سفرة حجّ روحية من 18 إلى 22 تشرين الأول، تشمل محطات إيمانية في الفاتيكان، روما، أسيزي، كاشيا وغيرها، إضافة إلى المشاركة في قدّاس التقديس، ولقمة محبة جامعة بعده، ولقاء خاص مع قداسة البابا لاوون الرابع عشر في 20 تشرين الأول، يتبعه قداس شكر يترأسه البطريرك ميناسيان بحضور الأب الأقدس (تفاصيل المشاركة متوفرة عبر الموقع الإلكتروني www.stmaloyan.com).
علامة رجاء للكنيسة والعالم
إن إعلان قداسة المطران مالويان، الشهيد الراعي الذي رفض إنكار المسيح حتى الموت، يحمل رسالة كبرى إلى عالم اليوم: أن الإيمان أقوى من الاضطهاد، وأن الشهادة ليست موتًا، بل حياة أبدية. هو نداء إلى المؤمنين كي يسيروا على درب القداسة في حياتهم اليومية، مهما كانت الظروف قاسية.
لبنان، الذي عانق المطران مالويان في شبابه، يفرح اليوم بأن أحد أبنائه الروحيين صار قديسًا للكنيسة الجامعة. إنه تكريم جديد لأرض الأرز، "وطن القداسة"، الذي ما برح يقدم للعالم شهودًا وأنبياء، ليبقى علامة نور ورجاء في المشرق والعالم.
بهذا التقديس، يُضاف اسم المطران إغناطيوس شكرالله مالويان إلى سجلّ القديسين، فيتّحد دمه الطاهر بدماء القديسين والشهداء الذين سبقوه، ليبقى نوره سراجًا مضيئًا للأجيال المقبلة، شاهدًا أنّ الكنيسة، مهما عانت من اضطهاد واضمحلال، فهي حيّة بالروح القدس، وراسخة على صخرة المسيح.