كريستينا عاصي الصحافية المتمردة على الجرح... صورة مصغرّة عن انكساراتنا وانتصاراتنا

بعد مرور خمسة أشهر على الاستهداف الإسرائيلي الجنوني للطواقم الصحافية في جنوب لبنان، تخوض الصحافية كريستينا عاصي معركة متواصلة، مفكِّكة آلامها وخساراتها الجسدية والنفسية. 

تُعيد كريستينا حياكة جروحها الداخلية والخارجية، أكثر من 21 عملية جراحية خضعت لها من دون أن تستسلم أو تتذمّر، في حديثها لـ"النهار" تقول "لا مجال للاستسلام، سأواصل معركتي لأعود إلى الساحة وأستكمل عملي". 

في 13 تشرين الأول من العام الماضي، تعرّض صحافيون كانوا يغطون الأحداث جنوب لبنان لقصف إسرائيلي في علما الشعب ما أدى الى استشهاد المصور في "رويترز" عصام عبد الله، وإصابة الصحافيَين في "رويترز" ثائر السوداني وماهر نزيه، بجروح. وأصيبت كذلك المصورة في وكالة "فرانس برس" كريستينا عاصي، ومصور الفيديو في الوكالة نفسها ديلان كولنز. كما أصيبت الصحافية من فريق قناة "الجزيرة" كارمن جوخدار والمصور إيلي براخيا.

في اليوم العالمي للمرأة، قد تكون كريستينا تلك الصورة المكبّرة التي نحتاج إلى النظر إليها لتُذكّرنا بانتصاراتنا الصغيرة والكبيرة بالمثابرة المتواصلة، لتحقيق ما نحلم به، وبأن لا شيء يمنعنا من النهوض مجدداً. في هذا اليوم، عشرات النساء مثل كريستينا يخضن معاركهن الصامتة، وينتصرن عليها بالصبر والقوة والعزيمة.

تدرك كريستينا جيّداً أن الخسارة لن تنال من عزيمتها، بل زادتها صبراً وعزيمةً. تعترف أنها مرت "بلحظات ضعف كثيرة وأوجاع كبيرة، تجاوزتُ خطر الموت مرتين، الأولى عند تغطيتنا الاشتباكات الحاصلة في الجنوب، والثانية عند تخطي مرحلة الخطر التي كانت تهدّد حياتي في المستشفى. مررتُ بلحظات ضعف وانكسارات، الصدمة التي تعرضنا لها جميعنا كانت قوية وقاسية، وما زالت ذيولها تترسب بصمت في دواخلنا. ومع ذلك لن أتوقف عن المثابرة ومواصلة المعركة "ما رح خليهم يربحوا".

لا تُخفي كريستينا، ابنة الـ28 عاماً، المشاعر المتناقضة التي تعيشها منذ تعرضها للقصف الإسرائيلي، وتواصل تركيب المشاهد كما تركيب حياتها بطريقة مختلفة. تعرف أن لا شيء يُخفف من وقع الصدمة والألم، هي التي تحمل جروحها وتمضي بها إلى الأمام، لا مجال للالتفات إلى الوراء، ويستحيل أن تفكر ولو للحظة بالندم من حماسها في تغطية الأحداث في ذلك اليوم المشؤوم.

تسترجع تلك اللحظات قائلةً: "كانت المرة الأولى التي أغطي فيها اشتباكات على أرض الواقع، خمس سنوات في العمل الصحافي، إلا أنها كانت تلك فرصتي الأولى لأكون في ساحة الحدث، وما هي إلا ساعات حتى أصبحنا نحن الخبر. لقد كنا فعلاً في مكان آمن وهادئ، حتى إنني استغربتُ من جدوى وجودنا في ذلك المكان حيث لا يُسجل أي اشتباك، كان الوضع جداً هادئاً قبل أن ينفجر فينا تحديداً. أتذكر جيّداً عندما ارتديتُ السترة شعرتُ بالفخر والحماس الكبيرين، كنتُ أظن أننا محميون إلا أن الحقيقة كانت عكس ذلك".

من الإصابة البليغة إلى غرفة العمليات، بقيت كريستينا تخوض معاركها الصغيرة مع ساقيها، ومع ذلك تؤكد "لن أبقى على الكرسي المتحرك، لن تنتهي القصة هنا. صحيح أن الفترة صعبة ومشواري مع العلاج طويل إلا أنني سأعاود المشي والعمل من جديد".

هكذا هي كريستينا، بكل صراعاتها النفسية والجسدية، تحاول التأقلم مع واقعها الجديد. تروي "كنتُ أعيش 28 عاماً بكامل قواي الصحية والنفسية، لأجد نفسي في واقع جديد وتغييرات كثيرة. بدأتُ أعيش معاناة الأشخاص من ذوي الاحتياجات في هذا البلد نتيجة الافتقار إلى التجهيزات اللازمة، تفاصيل صغيرة تصبح في غاية الأهمية لأنك لم تعودي كما كنتِ سابقاً. باختصار ما زلتُ لا أستوعب حقيقة ما حصل، كأننا أمام مشهد سوريالي". 

مشوار كريستينا مع العلاج طويل، ما زالت تخطو خطواته ببطء وروية، أمامها قرابة السنة لتستعيد عافيتها بشكل كامل، ومع ذلك ترفض التذمر والاستسلام. تقول: "هناك شيء في داخلي يحثّني على متابعة الصمود والنضال. لا أعرف ما هو ولكن صوتاً في داخلي يذكرني "مش رح خليهم يربحوا". لن أستسلم". لقد علّمتني هذه التجربة معنى الصبر لأنني كنت إنسانة غير صبورة، لذلك أكرر لنفسي دائماً هذه العبارة "ثابري وممنوع تستسلمي".

الجرح، القهر، الألم، القوة، الصبر والإصرار... مشاعر كثيرة تختبرها كريستينا يومياً، إلا أن رسالتها الوحيدة لكل امرأة "لا تدعي أحداً يقلّل من قدراتك أو قيمتك أو حجم عطائك. إذا كنتِ تؤمنين بما تقومين به فلا تستمعي إلى عبارات "لا" أو "ما بتقدري"، لا تتوقفي عن المحاولة وثابري لتصلي إلى المكان الذي تطمحين إليه".