كوليرا قاتلة ومصائب أخرى مع اكتظاظ السجون واعتكاف القضاء

إن كان القضاء اللبناني قد نجح، عبر خطوته التصعيدية التّي تمثلت بالاعتكاف التام و"الأشرس" في تاريخه الذي أطلقه منذ ثلاث أشهر، في تلقين كل من السلطات التنفيذية والتشريعية وما يتبعها من مؤسسات عامة درسًا في ماهية وجوده وثباته واستقلاله.. فإن العارف بالتعقيدات والأزمات قُبيل الاعتكاف والمتراكمة منذ عقود، يتفادى المبالغة في التوقعات، بل ويدرك حتمًا أن هذا الاعتكاف يتحمل فيه بعض القضاة المضربين النصيب الأكبر من المسؤولية.

هذه المسؤولية التّي أفرزت طرديًا الأزمات الحقوقية والأمنية والاجتماعية المستفحلة حاليًا، وخصوصاً في الملفات الكُبرى التّي تخاذل بعض أهل القضاء عن معالجتها، بل وتقاعسوا عن أداء شطر لا يُستهان به من واجباتهم لصالح مصالحهم السّياسيّة والطائفية والمادية. ولعل واقع السجون في لبنان وما يكتنفه من شرخ حاد بين أسلوب تعاطي الجهات المولجة بتنظيمه من قضاء وأمن، وبين مفاهيم العدالة والحقوق الإنسانية التّي ينصّ عليها الدستوراللبناني والتشريعات الدولية، هو خير مثال لهذا التخاذل والتقاعس التاريخيين.

واقع مزرٍ ومساجين بلا أحكام
في حديثها مع "المدن" تروي م. ع. وهي أم لسجينين في سجن رومية المركزي معاناتها في تحصيل العدالة لابنيها، وتأمين احتياجاتهما في هذه الظروف: " ابناي أُوقفا بتهمة الإرهاب في مخيم عين الحلوة في صيدا منذ أربعة سنوات، بالرغم أن ابني الأصغر كان قاصرًا عند توقيفه، وحتى الآن لم يتم الحكم عليه أو إجراء حتّى جلسة واحدة على الأقلّ، منذ أربعة سنوات تقريبًا، تارةً بحجة عدم توافر آليات لنقله وأخرى بحجة الإضرابات. في حين تتواردني الأخبار دوريًا عن حالتهما المتدهورة أسوة بحالة المساجين الآخرين. فالطعام الذي يُقدم قليل وعفن، والمياه الملوثة تسببت لإبنيَّ بأمراض جلدية والتهابات في الكلى، بينما لا تتوافر طبابة أبدًا، وإن توافرت فهي متأخرة، فيما أجد صعوبة في زيارتهما بسبب تكلفة النقل الجنونية، فضلاً عن تزويدهما بالطعام والمياه الصحية، لأن إدارة السجون لا تسمح بادخالها وتشترط شرائها على المساجين من الداخل وبأسعار مضاعفة".

اكتظاظ مقيت بنسبة إشغال تتجاوز 380 بالمئة، زنازين تغص بنزلائها، أمراض جرثومية وجلدية منتشرة، طعام ومياه ملوثة، لا طبابة، لا كهرباء، ما يتجاوز 85 بالمئة من النزلاء غير محكومين حتى اليوم؛ ضغط جسيم على كاهل القوى الأمنية المنهارة أصلاً، تحامل سياسي، وأخيرًا اعتكاف قضائي أطاح بأي نيّة لتخفيف هول الأزمة المحدقة، هو واقع السجون المزري اليوم. وبين مناشدات أهالي الموقوفين والجمعيات الحقوقية والتخوف الرسمي من انفجار هذه الأزمة، والمطالبات المستمرة بتخفيض السنة السجنية لثلاث سنوات، فضلاً عن العفو العام، يعيش نزلاء السجون الخمسة وعشرين على امتداد الأراضي اللبنانية أفظع أشكال الإهمال والمظلومية.

اكتظاظ وشلل إداري
أشار مصدر أمني رفيع المستوى في سجن رومية المركزي في حديثه مع "المدن" إلى أن أصل كل المشكلات مرتبط بصورة مباشرة بواقع الاكتظاظ الحاد، الذي ألقى أعباء إضافية على كاهل المؤسسة الأمنية، إذ أن سجن رومية وحده بات يضم اليوم حوالى 4200 محكوم وموقوف، في حين أن قدرته الاستيعابية لا تتعدى 1500 سجين، وذكر أن حوالى 80 بالمئة من الموقوفين اليوم غير محكومين، وبعضهم تجاوزت مدّة توقيفهم قيد التحقيق خمس سنوات، فيما تضم السجون كافةً حوالى العشرة آلاف نزيل.

وأضاف: "هذه الأزمة التّي تفاقمت وتيرتها في آخر ثلاث سنوات بتوقّف المحاكمات والتحقيقات التّي بدأت مع انتشار كورونا، وتراجع ميزانية السجون بفعل الأزمة الاقتصادية، ناهيك عن توالي إضرابات القضاة والموظفين المفتوحة، وتأجيل المحاكمات لأوقات طويلة لعدم توافر آليات لقوى الأمن الداخلي لنقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم ودوائر التحقيق".

وقد ناشد وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي في آخر آب الماضي القضاء للإسراع بالمحاكمات، لتخفيف مشكلة الاكتظاظ، ولفت إلى أزمة الطبابة والتغذية، وتقدّمه بطلب اعتماد مالي لتأمينها. وأشار المولوي أنه تقدم باقتراح قانون لتخفيض السنة السجنية من تسعة أشهر إلى ستة أشهر، وأكد على مطلب العفو العام كحلّ لهذه الأزمة.

وفيات وكارثة صحية
في حديثها مع "المدن" أشارت "أ. ر" وهي شقيقة أحد المساجين الموقوفين في رومية أنها عانت الأمرين في تسهيل ملف إخلاء سبيل أخيها الموقوف منذ ست سنوات: "أخي حُكم عليه بخمس سنوات، وقد اعتقل لمدة سنة ونصف السنة لحين انتهاء محاكمته، وبعد عدّة جولات تمكنا من استحصال طلب تخفيف للعقوبة ووافقت اللجنة عليه، وكان من المفترض أن يُطلق سراح أخي منذ بداية العام الحالي، إلا أن الإضرابات المتكررة والاعتكاف منعاني من تحصيل قرار الإخلاء، وبين الإضرابات حاولت التوجه للتحصيل فضدمت بواقع التعطيل والبيروقراطية، ما أسفر عن حرمان اخي من حريته بالرغم من انهائه عقوبته".

وأضافت: "يبلغني أخي دائمًا عن واقع المساجين المأساوي، وعن قصور التغذية والطبابة، التّي تسببت منذ شهرين بوفاة أحد رفاقه في الزنزانة، نتيجة المضاعفات والالتهابات الجلدية والدموية، وقد توفي هذا السجين في الزنرانة ونقلته القوى الأمنية بعد شكوى المساجين من الرائحة"!

بات هاجس موت السجناء يتربص بذويهم، فبعد وفاة موقوف في سجن القبة أيلول الماضي، تكرر مسلسل الوفيات في الزنازين منذ يومين مع بدء تسارع وتيرة الكوليرا في لبنان، وآخرها وفاة كل من محمود قطايا (36 سنة، لبناني، موقوف في مبنى الأحداث) وحسين فتوح (40 سنة، لبناني، موقوف في سجن القبة طرابلس)، مع تداول معلومات متضاربة عن سبب هذه الوفيات وملابساتها والتّي رجحت إصابتهما بالكوليرا، والتهابات جلدية، وبسبب تأخر المساعدة الطبية والعلاجية وإهمال استغاثاتهم، حسب الرواية التّي نقلها بعض السجناء والعناصر المناوبين فضلاً عن تصريح المشفى الحكومي في طرابلس سابقًا عن إصابة فتوح بالكوليرا. وقد حاولت "المدن" التواصل مع ذويهما الذين رفضوا التحدث مع الصحافة، معتبرين أن أبنائهم توفوا بمضاعفات صحية طبيعية.

مطالبات وتغاضٍ رسمي
وفي هذا السّياق تصف رائدة الصلح، نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين، واقع السجون بالمزري، قائلة: "السجون في حالة كارثية، عشرات المساجين في الزنزانة الواحدة والتّي تبلغ سعتها أساسًا عشرة نزلاء كحدّ أقصى، ومع تراجع المساعدات والرعاية الطبية بسبب عدم صرف الدولة مستحقات الأطباء المناوبين، عدا عن إنتشار الأمراض المُعدية وانعدام النظافة وتلوث المياه وسوء الغذاء المتعفن والفاسد.

أمّا المساعدات التي تأتي إلى السجن عبر الجمعيات فلا تتعدى بعض الحاجيات البسيطة، مثل الفرشاة ومعجون الأسنان، التي تأتي كل أربعة أشهر، أما الفرش والأغطية التّي يستخدمها النزلاء فمهترئة وقد تكون السبب الأساسي لانتشار الأمراض الجلدية. فالنزلاء ينامون رأساً وكعباً، ومنهم من يسهر طيلة الليل ويتناوب على النوم. الحمامات متسخة ما تسبب بتسريع وتيرة الأوبئة كالكوليرا والكوفيد فضلاّ عن الالتهابات البولية، ولا يُتاح  للأهالي إمداد ذويهم بأي مساعدات. إذ أن إدارة السجن تضع قيودًا على ما يسمح إدخاله، وبرفضون في معظم الحالات إدخال الطعام والشراب خشية وجود مخدرات فيه، كما ولا تسمح بإدخال فرش أو أغطية جديدة".

وأضافت: "المساجين يطبخون ويسخنون المياه للإستحمام بواسطة سخانات صغيرة تعمل على الكهرباء، والتّي تُشكل خطراً كبيراً على حياتهم. وقد توفي جراء ماس كهربائي منها عدة مساجين سابقًا. هذا فيما معظم النزلاء موقوفون ولا أحكام عليهم أو موقوفون بسبب غرامات لا يمكن لذويهم تأمينها". وإعتبرت الصُلح أن "الأزمة ليست جديدة وهي من الهموم الكُبرى التّي لها تداعياتها على المجتمع ومفهوم العدالة والإنسانية، واعتكاف القضاة جعل من الموقوفين رهينة للتفاوض على الرواتب. ونطالب اليوم بالالتفات لهذه الكارثة الإنسانية التّي تهدد حياة المساجين، كما ونناشد السّلطات بإقرار قانون العفو العام المُدرج ببرنامج مجلس النواب، والذي تقدم به كل من النائب جميل السيد وعدنان الطرابلسي ولفت إليه وزير الداخلية، وتفعيل دور لجنة تخفيض العقوبات، والانتباه لوضع الأحداث المأزوم.

أعباء الأزمة تقع بجزء كبير منها على كاهل القضاء المولج بإصدار الأحكام، فضلاً عن السلطات اللبنانية التّي تتقاعس عن إيلاء هذا الملف الاهتمام اللازم أو نقل إدارات السجون كحد أدنى إلى وزارة العدل المسؤولة عن المحاكم، ما يقد يسهم بتحسين التواصل وتخفيف حدّة الاكتظاظ، كما ولا يمكن حصرها فقط بالقوى الأمنية المأزومة والمنهارة.

وإن اختلفنا أو وافقنا على مطلب العفو العام بما يحمله من معضلة شائكة على الصعيد السياسي والطائفي، فإن اجتراح الحلول بات حاجة ملحة لهذه الأزمة، التّي بدأت تداعياتها تبرز على الصعيد الاجتماعي والحقوقي ووشيكة الانفجار. وبالرغم من كل الادعاءات التّي تجزم بأن مشكلة السجون هي مشكلة مركبة، فإن التقصير الرسمي بحقها خير دليل على التخاذل غير المبرر، فإن كانت السجون هي مراكز لتأهيل نزلائها بعقوبات عادلة ومعبرة، فإنها في لبنان باتت مرتعًا للظلم.. والموت أحياناً.