كيف تتحوّل تطبيقات المواعدة إلى مصيدة استخبارية في الجنوب؟

على امتداد الجنوب اللبناني يُكتب فصل جديد من المواجهة بين لبنان واسرائيل.  فصل بلا دخان ولا صواريخ، بل بأدوات أكثر نعومة، وأكثر خطورة... انه فصل شاشات الهواتف الذكية. 

في مهمة استقصائية هدفها التحقق من الثُغَر غير التقليدية في أمن الجنوب اللبناني، برزت ملاحظة بالغة الخطورة: تطبيقات المواعدة التي تعمل بتقنية تحديد الموقع الجغرافي والتي يمكن أن تكون إحدى الأدوات التي استغلها الجيش الإسرائيلي.

تطبيقات مثل Tinder، Bumble، Grindr، Badoo، Hily، OkCupid وغيرها، تتيح لأي مستخدم الوصول إلى أشخاص في الجوار الجغرافي القريب. وفي المناطق الحدودية، قد يكون "القريب" في الجانب الآخر من الحدود، في إسرائيل!

بفتح هذه التطبيقات في منطقة مارون الراس، بنت جبيل، علما الشعب، حولا، كفركلا، أو حتى صور، يُفاجأ المستخدم بأن معظم الحسابات الظاهرة عائدة إلى أشخاص داخل اسرائيل. بعضهم يظهرون بوضوح في صورهم الشخصية باللباس العسكري الإسرائيلي، وبعضهن يقدّمن أنفسهن جنديات في الجيش الإسرائيلي.

الأسماء مستعارة واللغات متعددة، لكن الرسالة واحدة: العدو حاضر هنا، يبتسم ويقول: "أهلاً، هل نتحادث؟"

من العاطفة إلى التورط: كيف يُصنع العميل؟
لا تبدأ الخيانة دائمًا بنيّة مسبقة. بل كثيرًا ما تنطلق من علاقة تبدو إنسانية أو عاطفية في ظاهرها. من السهل أن نتصور كيف يمكن شخصا يعيش في منطقة حدودية، يعاني عزلة اجتماعية أو ضغوطا حياتية، أن يلجأ إلى هذه التطبيقات بحثًا عن تواصل بشري بسيط. ولكن في ظل الغياب الكامل للتوعية، وعدم فهم ما تعنيه هذه النوافذ المفتوحة على العدو، يصبح الاحتمال قائماً، بل خطيرا.

من خلال محادثة عادية تبدأ بجملة بسيطة، تُجمع معلومات بتسلسل ودقة: أين تسكن؟ هل من نشاطات في منطقتك؟ من هم أصدقاؤك؟ هل تلاحظ وجود حواجز؟ من أين تمر السيارات؟ ثم يبدأ الانزلاق التدريجي: عروض للمساعدة، إغراء بالمال، وعود بالعلاقات، أو أحيانًا ابتزاز بمعلومات تم تسريبها خلال المحادثات. إنها عملية استغلال محكمة تستهدف نقاط الضعف في الأفراد، وتحوّلها إلى أدوات تعاون غير مباشر مع العدو.

ولا يُستبعد في هذه السياقات، نقل العلاقة لاحقا من التطبيق إلى وسائل أخرى أكثر أماناً: محادثات مشفّرة على تطبيقات بديلة، تحويل أموال على دفعات صغيرة، أو حتى لقاءات ميدانية مدبّرة بعناية. وهذا النموذج الذي قد يبدو نظريًا للبعض، هو في الحقيقة استراتيجية متبعة ضمن الحروب الحديثة، تُستخدم في أماكن كثيرة حول العالم، ولبنان ليس استثناء.

ثغرة تقنية بلا حراسة: أين الرقابة؟
رغم وضوح التهديد، لا رقابة فعلية على هذه التطبيقات في لبنان. لا قوانين تنظّم عملها، ولا سياسات تمنع استخدامها في مناطق تعدّ عسكريًا شديدة الحساسية، ولا أدوات فنية لرصد أنشطتها في الوقت الحقيقي. المفارقة أن بعض هذه التطبيقات لا يعمل تلقائيًا على الإنترنت اللبناني التقليدي (ألفا وتاتش)، كأن ذلك يشكل حاجزاً وهمياً للسلامة الرقمية. لكن هذا الحاجز يمكن تجاوزه خلال ثوانٍ عبر استخدام VPN، ما يجعل كل الحدود الرقمية مفتوحة بالكامل أمام من يعرف كيف يتجاوزها.

ليس هناك ما يمنع شابًا أو فتاة في بلدة حدودية من استخدام هذه التطبيقات، والتواصل مع طرف عسكري إسرائيلي، مباشرة وفورا. بل إن احتمال حدوث هذا التواصل يتضاعف في غياب التوعية، وانعدام حملات التحذير، وعدم وجود أي شكل من أشكال التدخل الاستباقي من الدولة أو البلديات أو المدارس أو حتى الإعلام.

ما نشهده ليس مجرد نشاط افتراضي مشبوه، بل هو تطبيق عملي لحرب ناعمة يستخدم فيها العدو أدوات ذكية، تستغل فجوات قانونية وأمنية واجتماعية. وهذه الحرب لا تُخاض بالجيش وحده، بل تحتاج إلى شبكة حماية وطنية متكاملة: وعي مجتمعي، دورات تدريبية، توجيه شبابي، رقابة إلكترونية، وتشريعات حديثة تواكب سرعة هذا التطور.